- القرآن الكريم
- سور القرآن الكريم
- 1- سورة الفاتحة
- 2- سورة البقرة
- 3- سورة آل عمران
- 4- سورة النساء
- 5- سورة المائدة
- 6- سورة الأنعام
- 7- سورة الأعراف
- 8- سورة الأنفال
- 9- سورة التوبة
- 10- سورة يونس
- 11- سورة هود
- 12- سورة يوسف
- 13- سورة الرعد
- 14- سورة إبراهيم
- 15- سورة الحجر
- 16- سورة النحل
- 17- سورة الإسراء
- 18- سورة الكهف
- 19- سورة مريم
- 20- سورة طه
- 21- سورة الأنبياء
- 22- سورة الحج
- 23- سورة المؤمنون
- 24- سورة النور
- 25- سورة الفرقان
- 26- سورة الشعراء
- 27- سورة النمل
- 28- سورة القصص
- 29- سورة العنكبوت
- 30- سورة الروم
- 31- سورة لقمان
- 32- سورة السجدة
- 33- سورة الأحزاب
- 34- سورة سبأ
- 35- سورة فاطر
- 36- سورة يس
- 37- سورة الصافات
- 38- سورة ص
- 39- سورة الزمر
- 40- سورة غافر
- 41- سورة فصلت
- 42- سورة الشورى
- 43- سورة الزخرف
- 44- سورة الدخان
- 45- سورة الجاثية
- 46- سورة الأحقاف
- 47- سورة محمد
- 48- سورة الفتح
- 49- سورة الحجرات
- 50- سورة ق
- 51- سورة الذاريات
- 52- سورة الطور
- 53- سورة النجم
- 54- سورة القمر
- 55- سورة الرحمن
- 56- سورة الواقعة
- 57- سورة الحديد
- 58- سورة المجادلة
- 59- سورة الحشر
- 60- سورة الممتحنة
- 61- سورة الصف
- 62- سورة الجمعة
- 63- سورة المنافقون
- 64- سورة التغابن
- 65- سورة الطلاق
- 66- سورة التحريم
- 67- سورة الملك
- 68- سورة القلم
- 69- سورة الحاقة
- 70- سورة المعارج
- 71- سورة نوح
- 72- سورة الجن
- 73- سورة المزمل
- 74- سورة المدثر
- 75- سورة القيامة
- 76- سورة الإنسان
- 77- سورة المرسلات
- 78- سورة النبأ
- 79- سورة النازعات
- 80- سورة عبس
- 81- سورة التكوير
- 82- سورة الانفطار
- 83- سورة المطففين
- 84- سورة الانشقاق
- 85- سورة البروج
- 86- سورة الطارق
- 87- سورة الأعلى
- 88- سورة الغاشية
- 89- سورة الفجر
- 90- سورة البلد
- 91- سورة الشمس
- 92- سورة الليل
- 93- سورة الضحى
- 94- سورة الشرح
- 95- سورة التين
- 96- سورة العلق
- 97- سورة القدر
- 98- سورة البينة
- 99- سورة الزلزلة
- 100- سورة العاديات
- 101- سورة القارعة
- 102- سورة التكاثر
- 103- سورة العصر
- 104- سورة الهمزة
- 105- سورة الفيل
- 106- سورة قريش
- 107- سورة الماعون
- 108- سورة الكوثر
- 109- سورة الكافرون
- 110- سورة النصر
- 111- سورة المسد
- 112- سورة الإخلاص
- 113- سورة الفلق
- 114- سورة الناس
- سور القرآن الكريم
- تفسير القرآن الكريم
- تصنيف القرآن الكريم
- آيات العقيدة
- آيات الشريعة
- آيات القوانين والتشريع
- آيات المفاهيم الأخلاقية
- آيات الآفاق والأنفس
- آيات الأنبياء والرسل
- آيات الانبياء والرسل عليهم الصلاة السلام
- سيدنا آدم عليه السلام
- سيدنا إدريس عليه السلام
- سيدنا نوح عليه السلام
- سيدنا هود عليه السلام
- سيدنا صالح عليه السلام
- سيدنا إبراهيم عليه السلام
- سيدنا إسماعيل عليه السلام
- سيدنا إسحاق عليه السلام
- سيدنا لوط عليه السلام
- سيدنا يعقوب عليه السلام
- سيدنا يوسف عليه السلام
- سيدنا شعيب عليه السلام
- سيدنا موسى عليه السلام
- بنو إسرائيل
- سيدنا هارون عليه السلام
- سيدنا داود عليه السلام
- سيدنا سليمان عليه السلام
- سيدنا أيوب عليه السلام
- سيدنا يونس عليه السلام
- سيدنا إلياس عليه السلام
- سيدنا اليسع عليه السلام
- سيدنا ذي الكفل عليه السلام
- سيدنا لقمان عليه السلام
- سيدنا زكريا عليه السلام
- سيدنا يحي عليه السلام
- سيدنا عيسى عليه السلام
- أهل الكتاب اليهود النصارى
- الصابئون والمجوس
- الاتعاظ بالسابقين
- النظر في عاقبة الماضين
- السيدة مريم عليها السلام ملحق
- آيات الناس وصفاتهم
- أنواع الناس
- صفات الإنسان
- صفات الأبراروجزائهم
- صفات الأثمين وجزائهم
- صفات الأشقى وجزائه
- صفات أعداء الرسل عليهم السلام
- صفات الأعراب
- صفات أصحاب الجحيم وجزائهم
- صفات أصحاب الجنة وحياتهم فيها
- صفات أصحاب الشمال وجزائهم
- صفات أصحاب النار وجزائهم
- صفات أصحاب اليمين وجزائهم
- صفات أولياءالشيطان وجزائهم
- صفات أولياء الله وجزائهم
- صفات أولي الألباب وجزائهم
- صفات الجاحدين وجزائهم
- صفات حزب الشيطان وجزائهم
- صفات حزب الله تعالى وجزائهم
- صفات الخائفين من الله ومن عذابه وجزائهم
- صفات الخائنين في الحرب وجزائهم
- صفات الخائنين في الغنيمة وجزائهم
- صفات الخائنين للعهود وجزائهم
- صفات الخائنين للناس وجزائهم
- صفات الخاسرين وجزائهم
- صفات الخاشعين وجزائهم
- صفات الخاشين الله تعالى وجزائهم
- صفات الخاضعين لله تعالى وجزائهم
- صفات الذاكرين الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يتبعون أهواءهم وجزائهم
- صفات الذين يريدون الحياة الدنيا وجزائهم
- صفات الذين يحبهم الله تعالى
- صفات الذين لايحبهم الله تعالى
- صفات الذين يشترون بآيات الله وبعهده
- صفات الذين يصدون عن سبيل الله تعالى وجزائهم
- صفات الذين يعملون السيئات وجزائهم
- صفات الذين لايفلحون
- صفات الذين يهديهم الله تعالى
- صفات الذين لا يهديهم الله تعالى
- صفات الراشدين وجزائهم
- صفات الرسل عليهم السلام
- صفات الشاكرين وجزائهم
- صفات الشهداء وجزائهم وحياتهم عند ربهم
- صفات الصالحين وجزائهم
- صفات الصائمين وجزائهم
- صفات الصابرين وجزائهم
- صفات الصادقين وجزائهم
- صفات الصدِّقين وجزائهم
- صفات الضالين وجزائهم
- صفات المُضَّلّين وجزائهم
- صفات المُضِلّين. وجزائهم
- صفات الطاغين وجزائهم
- صفات الظالمين وجزائهم
- صفات العابدين وجزائهم
- صفات عباد الرحمن وجزائهم
- صفات الغافلين وجزائهم
- صفات الغاوين وجزائهم
- صفات الفائزين وجزائهم
- صفات الفارّين من القتال وجزائهم
- صفات الفاسقين وجزائهم
- صفات الفجار وجزائهم
- صفات الفخورين وجزائهم
- صفات القانتين وجزائهم
- صفات الكاذبين وجزائهم
- صفات المكذِّبين وجزائهم
- صفات الكافرين وجزائهم
- صفات اللامزين والهامزين وجزائهم
- صفات المؤمنين بالأديان السماوية وجزائهم
- صفات المبطلين وجزائهم
- صفات المتذكرين وجزائهم
- صفات المترفين وجزائهم
- صفات المتصدقين وجزائهم
- صفات المتقين وجزائهم
- صفات المتكبرين وجزائهم
- صفات المتوكلين على الله وجزائهم
- صفات المرتدين وجزائهم
- صفات المجاهدين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المجرمين وجزائهم
- صفات المحسنين وجزائهم
- صفات المخبتين وجزائهم
- صفات المختلفين والمتفرقين من أهل الكتاب وجزائهم
- صفات المُخلَصين وجزائهم
- صفات المستقيمين وجزائهم
- صفات المستكبرين وجزائهم
- صفات المستهزئين بآيات الله وجزائهم
- صفات المستهزئين بالدين وجزائهم
- صفات المسرفين وجزائهم
- صفات المسلمين وجزائهم
- صفات المشركين وجزائهم
- صفات المصَدِّقين وجزائهم
- صفات المصلحين وجزائهم
- صفات المصلين وجزائهم
- صفات المضعفين وجزائهم
- صفات المطففين للكيل والميزان وجزائهم
- صفات المعتدين وجزائهم
- صفات المعتدين على الكعبة وجزائهم
- صفات المعرضين وجزائهم
- صفات المغضوب عليهم وجزائهم
- صفات المُفترين وجزائهم
- صفات المفسدين إجتماعياَ وجزائهم
- صفات المفسدين دينيًا وجزائهم
- صفات المفلحين وجزائهم
- صفات المقاتلين في سبيل الله وجزائهم
- صفات المقربين الى الله تعالى وجزائهم
- صفات المقسطين وجزائهم
- صفات المقلدين وجزائهم
- صفات الملحدين وجزائهم
- صفات الملحدين في آياته
- صفات الملعونين وجزائهم
- صفات المنافقين ومثلهم ومواقفهم وجزائهم
- صفات المهتدين وجزائهم
- صفات ناقضي العهود وجزائهم
- صفات النصارى
- صفات اليهود و النصارى
- آيات الرسول محمد (ص) والقرآن الكريم
- آيات المحاورات المختلفة - الأمثال - التشبيهات والمقارنة بين الأضداد
- نهج البلاغة
- تصنيف نهج البلاغة
- دراسات حول نهج البلاغة
- الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة السجادية
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- الباب السابع : باب الاخلاق
- الباب الثامن : باب الطاعات
- الباب التاسع: باب الذكر والدعاء
- الباب العاشر: باب السياسة
- الباب الحادي عشر:باب الإقتصاد
- الباب الثاني عشر: باب الإنسان
- الباب الثالث عشر: باب الكون
- الباب الرابع عشر: باب الإجتماع
- الباب الخامس عشر: باب العلم
- الباب السادس عشر: باب الزمن
- الباب السابع عشر: باب التاريخ
- الباب الثامن عشر: باب الصحة
- الباب التاسع عشر: باب العسكرية
- الباب الاول : باب التوحيد
- الباب الثاني : باب النبوة
- الباب الثالث : باب الإمامة
- الباب الرابع : باب المعاد
- الباب الخامس: باب الإسلام
- الباب السادس : باب الملائكة
- تصنيف الصحيفة بالموضوعات
- أسماء الله الحسنى
- أعلام الهداية
- النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
- السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسين بن علي (عليه السَّلام)
- لإمام علي بن الحسين (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السَّلام)
- الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام)
- الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السَّلام)
- الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السَّلام)
- الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السَّلام)
- الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرَجَه)
- تاريخ وسيرة
- "تحميل كتب بصيغة "بي دي أف
- تحميل كتب حول الأخلاق
- تحميل كتب حول الشيعة
- تحميل كتب حول الثقافة
- تحميل كتب الشهيد آية الله مطهري
- تحميل كتب التصنيف
- تحميل كتب التفسير
- تحميل كتب حول نهج البلاغة
- تحميل كتب حول الأسرة
- تحميل الصحيفة السجادية وتصنيفه
- تحميل كتب حول العقيدة
- قصص الأنبياء ، وقصص تربويَّة
- تحميل كتب السيرة النبوية والأئمة عليهم السلام
- تحميل كتب غلم الفقه والحديث
- تحميل كتب الوهابية وابن تيمية
- تحميل كتب حول التاريخ الإسلامي
- تحميل كتب أدب الطف
- تحميل كتب المجالس الحسينية
- تحميل كتب الركب الحسيني
- تحميل كتب دراسات وعلوم فرآنية
- تحميل كتب متنوعة
- تحميل كتب حول اليهود واليهودية والصهيونية
- المحقق جعفر السبحاني
- تحميل كتب اللغة العربية
- الفرقان في تفسير القرآن -الدكتور محمد الصادقي
- وقعة الجمل صفين والنهروان
موسوعة التاريخ
الإسلامي الشيخ محمد هادي اليوسفي ج 1
|
الكتاب: موسوعة التأريخ الاسلامي / ج 1 المؤلف: الشيخ محمد هادي
اليوسفي الغروي الناشر: مجمع الفكر الإسلامي الطبعة: الاولى / ربيع الثاني 1417
ه. ق |
بسم الله الرحمن الرحيم
|
كلمة المجمع يعتبر التأريخ الإسلامي مصدرا مهما من مصادر المعرفة الإسلامية
باعتبارين. الأول: ان
التأريخ - بشكل عام - ترجمة حقيقية وتعبير واقعي عن الأفكار والآراء والمفاهيم
التي تبناها الإنسان على مدى التأريخ فجسدها في سلوكه ونشاطه. والثاني: ان
التأريخ مجموعة تجارب ودروس وعبر كلفت البشرية ضحايا هائلة وطاقات ضخمة، لذلك
كان جديرا بإمعان النظر فيه وبذل الجهود الحثيثة لتحليل أحداثه والاهتداء إلى سننه
لكي تتوضح للبشرية الحقائق التي ترسم لها خطي السعادة والشقاء. وتجلت في التأريخ الإسلامي
عظمة الإسلام وشموخه وحيويته، فكان مصدرا من مصادر فهم السيرة النبوية فضلا عن
قدرته على التعبير عن التجربة الاولى للإسلام القادر على صنع الإنسان الأمثل
والمجتمع الأمثل، ولهذا فهو جدير بالدراسة العلمية الموضوعية المعمقة. وتتمثل المهمة الاولى لكل باحث في التأريخ الإسلامي في البحث عن المادة الأساسية للتحليل التأريخي بعد ان كان التأريخ
بشكل عام والتأريخ الإسلامي بشكل خاص عرضة للإهمال والتحريف بدءا بمشكلة المنع
من تدوين الأحاديث والسنة النبوية الشريفة التي تشكل البنية الأساسية للتجربة
الإسلامية الفريدة وانتهاء بإخضاع المؤرخين ونتاجاتهم لأهواء الحكام علاوة على
المتاجرة بكل ما يمكن نسبته إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وصحابته الكرام من قبل الرواة والمحدثين غير الورعين. فكم من
حوادث مهمة لم تدون أو دونت مختزلة بحجة الاختصار أو لاستلزامها الطعن ببعض
الحكام من صحابة وتابعين، فأدت إلى تزييف الحقائق التأريخية وتشويهها بما لا
يتناسب وعظمة تأريخنا الإسلامي الوضاء. ومن هنا كان على الباحث الموضوعي والمؤرخ المحقق أن يقوم قبل كل شئ
بنقد موضوعي لكل ما جاء في كتب التأريخ والحديث والتراجم والرجال والتفسير بعد
عرضه على العقل السليم ونصوص القرآن الكريم ومحكمات السنة النبوية الشريفة، وهذا ما قام به المحقق المتضلع فضيلة الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي في كتابه هذا (موسوعة التأريخ
الإسلامي). إذ اعتمد على التتبع اللازم في المصادر الأصلية التي تحتوي على
حوادث تأريخية ترتبط بموضوع بحثه، ثم عرضها على القرآن الكريم واصول السنة
الشريفة والعقل السليم، وقد حاول من خلال بحوثه تفنيد ما أورده المستشرقون ومن
حذا حذوهم في تشويه معالم الصورة الإسلامية الناصعة، وتقديم الصورة الأقرب إلى
الواقع عن الإسلام من خلال تأريخه المجيد. وهذه هي الحلقة الاولى من هذه الموسوعة وتختص بالعهد المكي من العصر
النبوي بدءا بحوادث السنة الاولى للهجرة وسوف يستمر البحث في الحلقات الآتية -
إن شاء الله تعالى - عن تأريخ الرسول الأكرم وأهل بيته الطاهرين. ونحن إذ نبارك له جهده المشكور، نتمنى له التوفيق في مواصلة هذا
النشاط المبارك. وآخر دعوانا ان الحمد
لله رب العالمين. قسم التأريخ في مجمع الفكر الإسلامي 8 / 9 /
1373 |
تقديم
كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام
|
التأريخ
قبل الإسلام:
|
التأريخ قبل الإسلام: لم يكن للناس قبل الإسلام مادة للتأريخ، اللهم إلا ما توارثوه
بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار آبائهم وأجدادهم وأنسابهم وشعوبهم
وقبائلهم وملوكهم، وما في حياة اولئك من قصص فيها البطولة والكرم والوفاء، وما
كان من خبر الأسر التي تناوبت الإمرة على الناس وما قاموا به من تجهيز الجيوش
وإقامة الحروب وبناء المدن والقصور، إلى أمثال ذلك، مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب واللسان مقام القلم، يعي الناس منه ويحفظون ثم
يؤدونها كما هي أو
بإضافة أو نقيصة، وكثيرا ماكان بإضافات وتحريفات. كان هذا عند الفرس المجوس،
واليهود الإسرائيليين، والعرب الجاهليين المشركين، واختص هؤلاء بأخبار الجاهلية
الاولى وأنسابها، وما فيها من قصص عن البيت وزمزم وجرهم، وما كان من أمرها، ثم
ماكان من خبر الاسر التي تناوبت الزعامة والإمرة على قريش، وما جرى قبل ذلك لسد
مأرب في اليمن، وما تبعه من تفرق الناس في البلاد. |
التأريخ
بعد الإسلام:
|
التأريخ بعد الإسلام: ثم ظهرت الرسالة المحمدية بصفتها أعظم حادث في حياة البشر عامة
والعرب خاصة، فكان محور تأريخ البشر عامة والعرب خاصة، فما اجتمع ملأ منهم أو
تفرق إلا وحديثهم عنه، ولاتحركت جيوشهم وكتائبهم إلا له أو عليه، حتى تتوجت
جهوده بمعنى قوله سبحانه * (إذا
جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * فنبذوا ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء بهداية
القرآن والإسلام. ويومئذ وبظهور النبي (صلى الله عليه وآله) وظهور دعوته، ظهر مورد
جديد للتأريخ، وهي أحاديث الصحابة والتابعين وأهل بيته (عليهم السلام) عن ولادته
وحياته، وما قام به (صلى الله عليه وآله) من جهاد وجهود في سبيل الله، واصطدام
في ذلك مع المشركين، ودعوة إلى التوحيد، وما كان فيها من أثر للسيف والسنان واللسان والبيان، وأصبحت هذه هي
مواد التأريخ الجديد بصورة عامة وسيرة الرسول بصورة خاصة. |
تدوين
السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
|
تدوين
السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
|
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام: ولم يدون في تأريخ الإسلام أو في سيرته (صلى
الله عليه وآله) شئ،
حتى مضت أيام الخلفاء، لم يدون في هذه المدة شئ سوى القرآن الكريم وتقويم إعرابه
بمبادئ وقواعد النحو على يد أبي الأسود الدؤلي بإملاء أمير المؤمنين علي ابن أبي
طالب (عليه السلام)، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) يحفز المسلمين على
كتابة القرآن حرصا على حفظه وصيانته، كما إن تفشي العجمة على ألسنة أبناء العرب
على أثر اختلاطهم بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية دفعت أبا الأسود الدؤلي إلى
عرض ذلك على علي (عليه السلام) فكان ذلك حافزا على تدوين النحو. وبهذا الاختلاط
ايضا تفشت فيهم أخبار الماضين من ملوك الفرس وبني إسرائيل، فلما كانت أيام
معاوية أحب أن يدون في التأريخ القديم كتاب فاستقدم عبيد بن شرية من صنعاء اليمن
فكتب له كتاب أخبار الماضين من ملوك اليمن من العرب البائدة وغيرهم ومنهم الفرس
والحبشة. وقد كان المسلمون يحبون أن يخلدوا آثار ما يتعلق بسيرة الرسول (صلى
الله عليه وآله)، وقد كان هذا يحقق ما في نفوسهم من تعلق به - عليه الصلاة
والسلام -، ولكنهم - ببالغ الأسف - منعوا عن تدوين أحاديثه مخافة أن يختلط
الحديث بالقرآن الكريم - كما زعموا -، بل منعوا حتى عن التحديث بحديثه، حاشا
أمير المؤمنين عليا (عليه السلام)، فإنه لم يشارك في هذا المنع ولم يؤيده، بل
كما أملى النحو على كاتبه أبي الأسود الدؤلي كتب هو أيضابعض الكتب في الفقه
والحديث، وأمر كاتبه الراتب عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب المهم من أقضيته،
وأحكامه في فنون الفقه من الوضوء والصلاة وسائر الأبواب (انظر
رجال النجاشي: 4 - 7، ط. النشر الإسلامي.). وبهذا الموقف من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبفعل حاجة المسلمين
إلى أحاديث نبيهم ظهر فيهم غير واحد من حملة الأحاديث العلماء الفقهاء، ولكن حيث
استمر هذا المنع رسميا من قبل الخلفاء بعد علي وابنه الحسن (عليهما السلام) إلى
أيام عمر بن عبد العزيز، قام رجال كلهم محدثون، لم يدونوا في الحديث والفقه
شيئا، ولكنهم عوضوا عن
كتابة أحاديثه بكتابة شئ من سيرته (صلى الله عليه وآله). |
اصول
السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني:
|
اصول السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني: لا شك في الأهمية الكبرى التي كانت لأقوال النبي (صلى
الله عليه وآله)
وأعماله في حياته، وأكثر منها بعد وفاته. ومن الطبيعي أن تورث هذه
الأهمية عناية بتدوين تفاصيل حياته وجمع الأخبار والأحاديث عنه (صلى
الله عليه وآله).
وطبيعي أيضا أن تكون القصص الشعبية عن سيرته موجودة في حياته معتنى بها - كحال
الناس في العناية بقصص الأنبياء من قبل -. وطبيعي أيضا أن يكون بعض
الصحابة والتابعين قد تفوق على أقرانه في علمه بسيرته ومغازيه. |
كتاب
السيرة الأوائل:
|
إن أول من صنف في السيرة هو عروة بن الزبير بن العوام (ت 92 ه). وذكر ابن سعد في كتابه " الطبقات " ما يفيد: أن أول من تخصص فيها هو أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 ه)، روى بعضها عنه المغيرة بن عبد الرحمن. ثم تنبه إلى جمع أخبارها
والتحديث بها وهب
بن منبه اليمني (ت 110 ه). ثم عاصم
بن عمر بن قتادة (ت 120 ه)
الذي يروي عنه ابن
إسحاق بعض أخبار سيرته كخبره
عن دعاء النبي للاستسقاء في طريق تبوك، وكثرة النفاق. ثم شرحبيل
بن سعد الشامي (ت 123 ه). ثم عبد
الله بن أبي بكر بن حزم القاضي (ت 135 ه) الذي طلب منه عمر بن عبد العزيز أن يكتب إليه ما عنده من الأحاديث
فنشرها بين الناس. ثم موسى
بن عقبة (ت 141 ه). ثم معمر
بن راشد (ت 150 ه). ثم محمد
بن إسحاق بن يسار المدني وقيل
بشار - بن خيار من سبي عين تمر بالعراق (ت 153 ه). ثم راويته زياد بن عبد الملك البكائي الكوفي العامري (ت 183 ه). ثم محمد
بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي صاحب كتاب المغازي (ت 207 ه). ثم
راوية ابن زياد البكائي عن ابن إسحاق: عبد
الملك بن هشام الحميري اليمني البصري (ت 218 ه). ولم يصلنا من كتب هؤلاء شئ سوى سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام عن البكائي عن ابن
إسحاق، ومغازي الواقدي، اللهم
إلا روايات في طيات
امهات المصادر التأريخية فيما بعد. |
المؤرخون
الأوائل:
|
وإلى جانب هؤلاء ظهر من لم يقتصر على أخبار سيرة الرسول (صلى الله
عليه وآله)، بل جمع إليها أخبار الجاهلية قبل الإسلام، ثم أخبار الخلفاء بعده،
أو جمع أخبار بعض الخلفاء، أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فقط، فكانوا مؤرخين بالمعنى العام. منهم: محمد بن السائب
الكلبي الكوفي النسابة (ت 146 ه) وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الكوفي (ت 157 ه). وهشام بن محمد الكلبي
الكوفي (ت 206 ه). ونصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ت 212 ه). وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 274 ه). وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت 279 ه). وإبراهيم بن محمد الثقفي
الكوفي الإصبهاني (ت 283 ه). وأبو الفرج علي بن الحسين الأموي الإصبهاني (ت 284 ه). وأحمد بن واضح بن يعقوب البغدادي (ت 292 ه). ومحمد بن جرير الطبري (ت 310 ه). وعلي بن الحسين المسعودي
البغدادي (ت 346 ه). ومحمد بن محمد بن النعمان التلعكبري المفيد (ت 413 ه). |
الأثر
الباقي في السيرة:
|
الأثر الباقي في السيرة: عرفنا أن الكتابة في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت قد حصلت في التابعين وتابعي التابعين، كما رأينا قائمة
أسمائهم وتواريخ وفياتهم، ولكنها لم تكن كثيرة، بل هي مهما أطلنا الحديث عنها
كانت قليلة جدا، لا تعدو أن تكون صحفا فيها بعض الأخبار عن سيرة المختار (صلى الله عليه وآله). أما الكتاب الذي كتبت له
الموفقية والنجاح وشهرة الاعتماد والوثوق فهو سيرة محمد بن إسحاق، التي ألفها في
أوائل أيام العباسيين. يروون أنه دخل يوما على المنصور وبين يديه ابنه المهدي، فقال له المنصور: أتعرف هذا يابن إسحاق ؟ قال: نعم، هذا ابن أمير
المؤمنين: فقال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك
هذا. فذهب ابن إسحاق فصنف
له الكتاب وأتاه به فلما رآه قال: لقد طولته يابن إسحاق فاذهب فاختصره. فاختصره، والقي الكتاب الكبير في خزانة الخليفة. وفي هذا المعنى روي عن
ابن عدي الرجالي المعروف أنه كان يقول في ابن إسحاق: " لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن
الاشتغال بكتب لا يحصل منها شئ للاشتغال بمغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق، وقد فتشت
أحاديثه الكثيرة فلم أجد ماتهيئ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ واتهم في الشئ
كما يخطئ غيره. ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة الاثبات، أخرج له مسلم
في المبايعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجه ". ثم أصبح ابن إسحاق في الحقيقة عمدة المؤلفين في السيرة، فما من كتاب في السيرة إلا وهو مستمد منه وراو عنه، اللهم إلا ما نأتي عليه من مغازي الواقدي ورواية كاتبه ابن سعد عنه،
وما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك أصبح كتاب ابن إسحاق عمدة
الكتب في السيرة لقرائها منذ أن كتبه إلى يومنا هذا ولاسيما بعد تهذيبها من قبل
ابن هشام - بحيث أنك لاتكاد تجد رجلا يدرس سيرة الرسول الكريم إلا وكتاب ابن
إسحاق كتابه الأول والام في ذلك. |
عمل
ابن هشام في سيرة ابن إسحاق:
|
وقد جاء بعده عبد
الملك بن هشام الحميري البصري (ت 218 ه) بنصف قرن تقريبا، فروى سيرة
ابن إسحاق برواية زياد بن عبد الملك البكائي العامري الكوفي (ت 183 ه) ولكنه لم يروها كما
هي بل تناولها بكثير من
التمرير والاختصار والاضافة والنقد أحيانا، والمعارضة بروايات اخر لغيره، عبر عن أعماله هذه بقوله في صدر سيرته: " وانا - إن شاء الله - مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله من ولده، أولادهم لأصلابهم الأول فالأول من
إسماعيل إلى رسول الله، وما يعرض من حديثهم - وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل للاختصار
- إلى حديث سيرة رسول
الله. وتارك بعض ما
يذكره ابن إسحاق في
هذا الكتاب مما ليس لرسول الله
فيه ذكر ولانزل فيه من القرآن شئ، وليس سببا لشئ من هذا الكتاب ولاتفسيرا له ولا
شاهدا عليه، لما ذكرت من
الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء
بعضها يشنع الحديث به (!)
وبعض يسوء بعض الناس ذكره (!) وبعض لم
يقر لنا البكائي بروايته (؟) ومستقص - إن شاء الله تعالى - ما سوى ذلك منه
بمبلغ الرواية له والعلم به
" (سيرة ابن هشام 1: 4.). |
إذن
فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق:
|
إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق: تأريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، ومن ولد إسماعيل من ليس في
عمود النسب النبوي الشريف، كما
حذف من الأخبار ما يسوء بعض
الناس ! ومن الشعر ما لم
يثبت لديه. ولكنه زاد فيه
مما ثبتت لديه من رواية، ولذلك
نسبت السيرة إليه
وعرفت به، حتى لا يكاد يذكر
ابن إسحاق معه، فقد
عرفت سيرة ابن إسحاق بين العلماء منذ عهد بعيد
باسم سيرة ابن هشام، لما
له فيها من رواية وتهذيب. وبهذا الصدد قال
ابن خلكان في ترجمة ابن هشام: " وابن هشام هذا هو الذي جمع سيرة رسول الله من المغازي والسير
لابن إسحاق وهذبها ولخصها، وهي
السيرة الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام ". ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا، إلا أن
الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب، أو فكرة يقيمها برهان وينقضها
برهان، شأن النظريات العلمية التي نرى تجديدها وتغييرها على مر السنين، وإنما هو
من العلوم النقلية لا العقلية، فكان المشتغلون به أولا محدثين ناقلين، ثم جاء من
بعدهم جامعين مبوبين ثم ناقدين معلقين. ولم يكن قابلا للتجديد في جوهره، إلا
بمقدار قليل حسب النقد الدقيق، وإنما كان التجديد في أشكاله وصوره شرحا أو
اختصارا، أو شيئا من النقد قليلا مشيرا إلى ما فيه من أخطاء. ولعل الذين
تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار، إنما خففوا من ثقل الكتاب بعض أخباره التي
استبعدوها غير مؤمنين بصحتها، ناقلين من الأخبار ما يرون فيها القرب من الحق،
ومستبعدين مالايجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفندين إياه رادين له. ولعل من علل انتشار أخبار ابن إسحاق ثم كتابه في السيرة كثرة
رحلاته، فالراجح في تأريخ
مولده في المدينة أنه كان سنة 85 ه ولا يرتاب الرجاليون وأصحاب الطبقات في أنه
أمضى شبابه في المدينة فتى جميلا " فارسي الخلقة " جذاب الوجه له شعرة
حسنة ولذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته: أنه اتهم بأنه يجلس في مؤخر المسجد
للصلاة فيغازل بعض النساء، فأمر أمير المدينة بإحضاره وضربه اسواطا ونهاه عن
الجلوس في مؤخر المسجد. ولعله لهذا لم يرو عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو
إبراهيم بن سعد فحسب (وانظر تهذيب التهذيب 9: 44.). ولعله لهذا رحل منها سنة 115 ه أي
في الثلاثين من عمره إلى الاسكندرية في مصر، ويظن أنها اولى رحلاته، فانفرد
برواية أحاديث عن عدة من رجال الحديث بها. ثم رحل إلى الكوفة والحيرة، ولعله بها التقى بالمنصور فصنف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق، فرواها
عنه زياد بن عبد الملك البكائي العامري وغيره، ورحل إلى الجزيرة أي الموصل، والري حتى إذا بنيت بغداد فرجع إليها
وفيها ألقى عصا الترحال، وله من كل هذه البلدان رواة كثيرون. وعاش في بغداد حتى
توفي بها فدفن في مقابر الخيزران. وقد كان ابن إسحاق يعد
في طبقة تلامذة عبد الملك بن شهاب الزهري وأقرانه، وله عنه روايات، ونقل أصحاب
الطبقات أن شيخه ابن شهاب الزهري لم يكن يتهمه بشئ بل كان يوثقه، وتبعه في توثيق
ابن إسحاق من الفقهاء الأئمة: سفيان الثوري وشعبة، بالإضافة إلى راويته زياد ابن
عبد الملك البكائي عنه. وإن
كان هشام بن عروة بن الزبير من رواة السيرة، ومالك بن أنس من
أئمة الفقهاء يتحاملان
عليه بالجرح والتضعيف
ويتهمانه بالكذب والدجل والتدليس، والقول بالقدر، والنقل عن غير الثقات، وأخطاء
في الأنساب. ولكن
لعله لأن ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك وعلمه ويقول: إيتوني ببعض كتبه حتى ابين لكم عيوبه، فأنا بيطار كتبه (راجع
ترجمته وهذه الأقوال في الكامل في الضعفاء لابن عدي 6: 102 - 112. (2) مغازي
الواقدي: 29.) ! إذن فالحملة
متقابلة من الطرفين، والتضعيف ضعيف لأنه معلوم الوجه والعلة " الشخصية
". |
مغازي
الواقدي:
|
مغازي الواقدي: أما الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني سهم، فقد ذكر تلميذه ابن
سعد في " الطبقات الكبرى " أنه ولد في المدينة سنة 130 ه أي
بعد خروج ابن إسحاق منها بخمسة عشر عاما، ولذلك لم يرو عنه وإن كان قد روى عن
سائر رواة الأخبار عن الزهري، مع تشابه كبير بين فقرات كتاب السيرة لإبن إسحاق
وكتاب المغازي للواقدي، ولذلك زعم مستشرقان هما (فلهوزن وهورفتس) أنه سرق منه ولم يسنده إليه، وفند زعمهما مستشرق آخر هو (مارسدن جونس) محقق المغازي كما في مقدمته للكتاب (مغازي
الواقدي.29 ) ثم احتمل أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا
إلى عدم توثيق علماء المدينة له. ثم قال: يبدو
واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين
أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التأريخي العلمي الفني، فإنا نلاحظ عند الواقدي - أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين - أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير، فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم
تلك الأخبار ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما
يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه،
وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه
لكل غزوة باسلوب موحد: فيذكر أولا اسم
الغزوة وتأريخها وأميرها. وكثيرا
ما يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة
بإسناد جامع، أي يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل
فيها آيات كثيرة من القرآن الكريم، فإن الواقدي
يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة، وفي المغازي المهمه يذكر الواقدي أسماء الذين استشهدوا فيها. وإن ما أورده في الكتاب
من التفاصيل الجغرافية ليوحي بجهده ومعرفته للدقائق في الأخبار التي جمعها في
رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم (مقدمة
المحقق للمغازي 1: 31.). وقد روى الخطيب البغدادي وابن سيد الناس (تأريخ بغداد 3: 6، وعيون الاثر 1: 18.) عن
الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا
سألته: هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى
الموضع فاعاينه، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع فاعاينه، حتى لقد مضيت إلى
" المريسيع " فنظرت إليها. ورووا عن هارون الغروي قال: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة فقلت: أين تريد ؟ قال: اريد أن أمضي
إلى حنين حتى أرى الموضع والوقعة. ويشهد لنباهة الواقدي بهذا الشأن ما قصه
تلميذه وراويته ابن سعد في الطبقات: إن هارون الرشيد ويحيى بن خالد البرمكي حين
زارا المدينة في حجتهما، طلبا من يدلهما على المشاهد وقبور الشهداء، فدلوهما على
الواقدي، فصحبهما في زيارتهما فلم يدع موضعا من المواضع ولامشهدا من المشاهد إلا
مر بهما عليه. فمنحه هارون الرشيد بعشرة آلاف درهم، فصرفها في قضاء ديون كانت قد
تراكمت عليه وزوج بعض ولده وبقي في يسر وسعة (انظر
الطبقات 5: 315.). ولكنه يعود فيقول: إنه لحقه دين بعد ذلك فذهب إلى العراق سنة 180
ه ((الطبقات 7: 77.) ويفصل الخطيب عن الواقدي يقول: كانت للناس في يدي مائة الف درهم
اضارب بها في الحنطة، وتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد
البرمكي (تأريخ بغداد 3: 4.)، ويفصل ابن سعد عنه أيضا يقول: ثم إن الدهر أعضنا، فقالت لي ام
عبد الله: يا أبا عبد الله ماقعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن
تسير إليه حيث استقرت به الدار. فرحلت من المدينة. ولما دخل بغداد وجد الخليفة
والبلاط قد انتقلوا إلى الرقة بالشام فرحل إليهم حتى لحق بهم (الطبقات
5: 315.) فيقول: صار إلي من السلطان ستمائة الف درهم ما وجبت علي فيها
الزكاة (تأريخ بغداد 3: 20.) ثم رجع معهم إلى بغداد وبقي بها، حتى قدمها المأمون فجعله قاضيا
لعسكر المهدي (الطبقات 7: 77.) وكان العسكر في الجانب الشرقي وكان الواقدي في الجانب الغربي فلما
انتقل حمل كتبه على عشرين ومائة وقر (تأريخ
بغداد 3: 5 وعيون الاثر 1: 18 والوافي بالوفيات 4: 238 وسير اعلام النبلاء 7:
118.) فولي القضاء مدة أربع سنوات قبل وفاته، وأوصى إلى المأمون فقبل
وصيته وأرسل إليه بأكفانه وقضى دينه (الطبقات
5: 315. الطبقات 5: 321 وتأريخ بغداد 3: 20 وتأريخ دمشق 11: 3 والوافي بالوفيات
4: 238.). ذكر ابن سعد - وهو تلميذه وكاتبه وراويته - يقول: مات
ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع ومائتين ودفن يوم
الثلاثاء في مقابر الخيزران، وهو ابن ثمان وسبعين سنة (الطبقات
7: 77.). |
مكانة
الواقدي في الرواية والعلم:
|
وتتجلى مكانته في الرواية والعلم في وصف كاتبه وتلميذه ابن سعد له حيث يقول: كان عالما بالمغازي والسيرة والفتوح واختلاف الناس في الحديث
والأحكام، واجتماعهم على ما أجمعوا عليه، وقد فسر ذلك في كتب استخرجها ووضعها
وحدث بها (الطبقات 5: 144.). وقال عنه ابن النديم في الفهرست: إنه كان عنده غلامان يعملان ليلا ونهارا في نسخ الكتب، وقد ترك
عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كل منها إلى رجلين لحمله (الفهرست:
144.). ونقل الخطيب البغدادي عن علي بن المديني: أن ما جمع الواقدي من الأحاديث بلغ عشرين ألف حديث (تأريخ
بغداد 3: 13.). ونقل ابن سيد الناس عن يحيى بن معين أنه قال: أغرب الواقدي على رسول الله في عشرين ألف حديث. ثم قال ابن سيد الناس: وقد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع وسؤاله من أبناء
الشهداء والصحابة ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادا بالروايات وأخبارا
لا تدخل تحت الحصر (عيون الأثر 1: 20.). ونقل
الذهبي عن إبراهيم الحربي أنه كان يقول عنه: إنه كان أعلم الناس بأمر الإسلام، فأما أمر الجاهلية فلم يعلم
منها شيئا (سير الأعلام 7: 117.) ثم
ذكروا له زهاء ثلاثين كتابا. ونرى في قائمة كتبه كتاب الطبقات، ولنا أن نتمثله
في كتاب الطبقات الكبرى لتلميذه وكاتبه محمد بن سعد، فقد نقل عنه كثيرا ولاشك
أنه صنفه على غرار كتاب شيخه وروى فيه عن غيره أيضا. ومن كتبه كتاب الردة، ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومحاربة الصحابة لطلحة بن خويلد الأسدي ومسيلمة الكذاب وسجاح في
اليمامة والأسود العنسي في اليمن. وقد نقل عنه تليمذه ابن سعد في الطبقات
والطبري في تأريخه أخبار الأحداث التي تلت وفاة النبي، وإنما هو من كتابه في
الردة. ويمكن القول بأن ما نقله ابن سعد، والطبري عنه عن الواقدي من أخبار الجاهلية فهو من
كتاب سموه: " كتاب التأريخ والمغازي والمبعث "، هكذا بتقديم المغازي على المبعث وتأخير المبعث عن المغازي، الذي
عدوه غير كتاب المغازي. والطبري ينقل المغازي عن الواقدي مباشرة ولكنه حين يورد
أخبار الجاهلية وما قبل الإسلام فإنه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي، مما يدل على
أنه اعتمد في المغازي على كتاب المغازي للواقدي، وأما في أخبار الجاهلية فهي من
كتاب آخر له لعله هو التأريخ والمبعث. ومن كتبه " فتوح الشام وفتوح العراق "، وقد نقل البلاذري
في كتابه
" فتوح البلدان " عن الواقدي كثيرا،
وهو من تلامذة ابن سعد كاتب الواقدي، فهو قد روى كتاب شيخه له ورواه البلاذري كما نقل ابن كثير
في " البداية والنهاية " كثيرا من حوادث سنة 64 ه والطبري نقل عنه كثيرا من حوادث النصف الثاني من القرن الثاني أي التي عاشها الواقدي. |
حول
تشيع الواقدي وابن إسحاق
|
قال ابن النديم (الفهرست: 144، هذا وقد روى ابن عدي الرجالي عنه في كتاب الكامل في
الضعفاء 6: 242، برقم 1719 بسنده عن بشر بن سعيد، قال: سألت زيد الجهمي: أوصى
النبي إلى أحد ؟ فقال: لا.) في فهرسته عن
الواقدي: كان يتشيع، حسن
المذهب، يلزم التقية، وهو الذي روى ان عليا كان من معجزات النبي (صلى الله عليه
وآله) كالعصا لموسى واحياء الموتى لعيسى بن مريم (عليهما السلام)، وغير ذلك من
الأخبار (الفهرست:
144.). ونقل هذا القول عنه السيد الأمين العاملي صاحب "
أعيان الشيعة " وترجم
له (أعيان الشيعة 46: 171.)،
وكذلك ذكره آقا بزرك الطهراني في " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " (الذريعة
3: 293.) عند الحديث عن تأريخ الواقدي. بينما لم يذكره الشيخ الطوسي في فهرسته ولارجاله ولاذكر كتابا من
كتبه حتى مقتل الحسين (عليه السلام). وابن أبي
الحديد حينما ينقل فقرة
طويلة عن الواقدي ثم يورد رواية اخرى مختلفة عن الاولى يبدؤها بقوله:
" وفي رواية الشيعة " (شرح نهج
البلاغة 3: 339.)، مما يدل على أنه لم يعتبره شيعيا ولاممثلا لهم. ومن الطريف أن
يلاحظ أن ابن إسحاق أيضا كان
يتهم بالتشيع (معجم الادباء 18: 7.). ولعل
السبب في وصفهما بالتشيع لا يرجع
إلى عقيدتهما الشخصية، بل
إلى ما ورد في كتابيهما من الأخبار التي يعرضونها مما
تقتضيه طبيعة التأليف في مثل هذه الموضوعات لا عن عقيدة صحيحة بها، وإلى ماأورداه في بعض المواضع من كتابيهما بشأن جماعة من الصحابة
منهم بعض الخلفاء فيذكر انهم بعبارات لاتضعهم في الموضع الموضوع لهما عند
كثير من المسلمين. ولذلك فان أكثر النقاد من المحدثين الأوائل كانوا يضعفون
الواقدي في الحديث. فقد قال البخاري والرازي
والنسائي والدارقطني: انه متروك الحديث،
ولكنهم لم يجمعوا على ذلك، فقد وصفه الدرآوردي
بأنه: أمير المؤمنين في الحديث. وقال يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. ووثقه مصعب الزبيري، ومجاهد بن موسى، والمسيب وأبو عبيد القاسم
بن سلام، وأبو بكر الصغائي (تهذيب
التهذيب 9: 364.). وقال إبراهيم الحربي: هو آمن الناس على أهل الإسلام (عيون
الأثر 1: 18.). وقال ابن
النديم: كان عالما
بالمغازي والسير والفتوح واختلاف الناس في الحديث والفقه والأحكام والأخبار (الفهرست:
144.). أما بالنسبة لابن
إسحاق: فقد عقد الخطيب
البغدادي في كتابه "
تأريخ بغداد " وكذلك
ابن سيد الناس في كتابه "
عيون الأثر " فصلين
فندا فيهما جميع المطاعن التي وجهت إليه. وبالنسبة لتشيعه وقوله بالقدر قالا ما ملخصه: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته، ولا
يوقع فيها كبير وهن، أما
التدليس فمنه القادح وغير
القادح، ولا يحمل ما وقع هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في
العدالة، وكذلك القدر والتشيع لا يقتضيان الرد إلا بضميمة اخرى لم نجدها هنا. والعجيب أنك لاتجد شيئا من هذا التشكيك في عبد
الملك بن هشام مهذب سيرة ابن إسحاق، فلو كان العيب في هذا
الباقي من سيرة ابن إسحاق لشمل الشك ابن هشام أيضا. وعندئذ نطمئن إلى ان العيب ليس في هذا الباقي بل فيما
قال عنه ابن هشام: " وتارك بعض ما يذكره ابن
إسحاق في هذا الكتاب... أشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته،
ومستقص ما سوى ذلك ". وعندئذ تجد محور
اتهام التشيع أيضا. وقد رأينا أنا إذا
استثنينا هذين المتهمين بالتشيع لم يبق لعامة المسلمين شئ يذكر في السيرة ولا
المغازي. وعندئذ ندرك أيضا
أن السابقين الأولين إلى تدوين سيرة الرسول ومغازيه أي الصدر الأول من تأريخ
الإسلام هم من شيعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أو المقاربين لهم المتهمين
بهم. |
نقد
كتب السيرة:
|
نقد كتب السيرة:
لعل النظر إلى تراث السلف الصالح - ولاسيما سيرة الرسول الكريم - بنظرة التقديس،
هو الذي أدى بالمؤلفين في السيرة على اختلاف طبقاتهم أن لايقفوا موقف الناقد
البصير، فلم نر منهم من يعرض لما تحمله السيرة بين دفتيها من أخبار ضعيفة بعيدة
عن الحقيقة لينقدها ويأتي على نقاط الضعف فيها، فهذا ما حرمه هذا العلم في جميع
أدواره السالفة إلى عهدنا هذا الأخير، حيث أخذ المستشرقون والمتأثرون بهم
يتناولون خبرا أو خبرين من السيرة وسيلة للطعن في شخص النبي الكريم (صلى الله
عليه وآله) أو ما يتصل به، فآمن بعض أصحاب الأقلام الجديدة بأن في السيرة أخبارا
لاتمت إلى الحق بصلة في قليل ولا كثير، ثم تجرؤوا فأقدموا على تهذيب السيرة مما
الصق بها وهي ليست منها، كقصة شق الصدر والغرانيق (انظر
ملخص القصة في ذيل الصفحة التالية.) وغرام
الرسول (صلى الله عليه
وآله) بزوجة زيد ربيبه ! إن
سيرة محمد (صلى الله عليه
وآله) كسائر العظماء اضيف
إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن نية وطوية، وإما عن حقد وسوء قصد متعمد،
ولكنها تمتاز عن سير جميع العظماء بأن شيئا كثيرا منها ضمه الوحي الإلهي وضمن
حفظه القرآن الكريم، وكثيرا منها مروي على لسان الحفاظ الثقات من المحدثين. فعلى
هذه الاسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن تحلل التحليل العلمي النزيه بملاحظة
ظروف الوسط وحال البيئة وجوانبها المختلفة من عقائد ونظم وعادات وتقاليد وطقوس،
وأن لايبنى الأساس على المعجزات والكرامات وخوارق العادات إلا ما خرج بالدليل بل
يبنى على أساس " إن الله أبى أن يجري الأشياء إلا بأسباب " (اصول
الكافي 1: 183، عن الصادق (عليه السلام) اللهم
إلا ما خرج بالدليل الثابت المعقول. |
الخلاف
في كتب السيرة وبينها:
|
إن الدارس لكتب السيرة والتأريخ يلاحظ أن ماروته من أنباء الخوارق والمعجزات وغيرها من كثير من الأنباء،
ينقص ثم يزيد بزيادة الأزمان التي وضعت فيها هذه الكتب، فقديمها أقل رواية
للخوارق من متأخرها، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدا عن مقتضى
العقل مما ورد في كتب المتأخرين. فهذه سيرة ابن هشام أو قل ابن إسحاق أقدم السير المعروفة اليوم
تغفل كثيرا عما ذكره أبو الفداء في تأريخه وما ذكره القاضي عياض في "
الشفاء " وعن جميع كتب المتأخرين تقريبا. فلا بد للباحث من أن يقبل لنفسه مقياسا يعرض عليه ما اتفقوا عليه
وما اختلفوا فيه، فما صدقه هذا المقياس أقره وأقر به وقربه، وما لم يصدقه فلم
يورده بل يرده " (مثلا:
إن قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش فتلا عليهم
سورة النجم حتى إذا بلغ فيها إلى قوله سبحانه * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة
الثالثة الاخرى) * أضاف إليها * (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى). وهناك سبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا علميا دقيقا،
هو أن أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن ثم أتم السورة فسجد وسجد
المسلمون والمشركون ! وقد
رواها ابن إسحاق ثم قال: إنها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في
كتابه " البداية والنهاية " فقال " ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا
يسمعها من لا يضعها في مواضعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح، ثم ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله " انفرد به
البخاري دون مسلم ". أما الذي يتخذ عصمة الرسول في تبليغ الرسالة مقياسا للأخذ والرد، فلا
يتردد في نفي القصة من أساسها، بل يتفق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة،
ويكتفي في ردها بما فيها من نقض ما للرسول من عصمة في تبليغ رسالة ربه، كما
تقتضي ذلك قواعد النقد العلمي، كما فعل هيكل في كتابه: 48 و 161 - 147. فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كان اختلاق
الروايات والأحاديث من وسائلها للغلبة على خصومها، فكيف بما كتب متأخرا في أشد أزمان الاضطرابات والقلاقل ؟ وكيف بما
ورد في المتأخر من كتب السيرة ؟ فهل يمكن الأخذ به بدون تمحيص بدقة علمية ؟ وقد أدت المنازعات السياسية وغيرها التي حدثت بعد الصدر الأول من
الإسلام، إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها، هذا والحديث لم يدون إلى أواخر عصر الأمويين. ذلك لأن عمر عزم على
ذلك فأصبح يوما يقول: إني
كنت أردت أن أكتب السنن، ثم عدلت عن كتابتها، فإني - والله - لا أشوب كتاب الله
بشئ أبدا ! ثم كتب إلى
الأمصار بذلك يقول: من كان عنده شئ غير القرآن فليمحه ! وظل
الأمر كذلك - ما عدا عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسن (عليهما
السلام) - حتى أمر عمر بن
عبد العزيز بجمع الحديث (طبقات
ابن سعد 3: 206.). أما كيف روى مثل البخاري مثل قصة الغرانيق - مثلا - ؟ فقد اعتذر عن مثل ذلك النووي في شرحه لصحيح مسلم قال: "
أخذ جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما
التزماه " وقد التزما بمقياس السند والثقة بالرواية في قبول الحديث ورفضه، ولكنه وحده غير كاف لذلك. بل إن خير مقياس يقاس به الحديث والخبر عن النبي ما روي عنه - عليه
الصلاة والسلام - قال: " إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على
كتاب الله فما وافقه فمني وما خالفه فليس مني " (لم نعثر
على هذه الرواية بهذا النص في الجوامع الحديثية ولكن ورد مضمونها في البحار 2:
225.) فهو
مقياس صحيح أخذ به كثير من الثقات، وهو يتفق مع قواعد النقد العلمي، وقال ابن
خلدون بشأنه: " إنني لا
أعتقد صحة سند حديث ولاقول صحابي عالم يخالف ظاهر القرآن، وإن وثقوا رجاله، فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله وهو سئ الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا: إن من علامة الحديث الموضوع: مخالفته لظاهر القرآن، أو
القواعد المقررة في الشريعة، أو لبرهان العقل، أو الحس والعيان وسائر اليقينيات
". حقا إن اختلاف
المسلمين بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بلغ حدا دعا الدعاة فيهم إلى
اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. لما قتل عثمان وبدأت الحروب الداخلية بين المسلمين بخصومة خصماء
علي (عليه السلام)، وأيد أمير المؤمنين من أيده، ثم استتب الأمر لبني امية جعل
المحدثون المتصلون ببني امية يضعفون ما يروى عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وفضائله، وكما جعل أنصار عائشة يشيعون عنها ما يؤيد دعواها. ومن طريف ما يروى في ذلك: ما رواه الذهبي في ترجمة إسماعيل بن
المثنى الاسترآبادي: كان
يعظ بدمشق، فقام إليه رجل فسأله عن قول النبي: أنا مدينة العلم وعلي بابها ؟
فأطرق إسماعيل لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم لايعرف هذا الحديث عن النبي إلا من
كان في صدر الإسلام، إنما
قال النبي: أنا مدينة العلم
وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها ! فسر الحاضرون بذلك،
فسألوه أن يخرج لهم إسناده، فوعدهم به (لسان
الميزان 1: 422.) وذكر القصة ابن عساكر فقال: فأنعم ولم يخرجه لهم (تأريخ
ابن عساكر 3: 34 وانظر كتاب: فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي: 156 ط
- الحيدرية - النجف الأشرف. بتحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني النجفي.). أجل،
هكذا كانت الأحاديث تلفق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة حتى كثرت وشاعت. هذا، وقد
تولى كتاب السيرة كتابتها - كما مر خبرها - للخلفاء: فابن إسحاق
كتب سيرته للمنصور وابنه المهدي، والواقدي كتب
مغازيه للرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي، اللهم إلا هشام الكلبي والمدائني فإنهما لم يكتبا لأحد منهم، ولكنهم كلهم ماكان لهم أن ينازعوا مع
الخليفة في آرائه خوفا منه، ولذلك
فإنه لا ينطبق على ما كتبوه مقاييس الصحة بدقة. ومن أمثلة الاختلاف في النقل الذي يبدأ بذكر معجزة نراها تزيد
بزيادة الزمان إلى معاجز: ما حدث في أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك: فقد روى
ابن هشام قال: " قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولاماء معهم شكوا ذلك إلى
رسول الله - صلى الله عليه ج وآله ج وسلم - فدعا رسول الله، فأرسل الله سحابة
فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء " (السيرة
النبوية، لابن هشام 3 و 4: 522.). أما
صحيح مسلم فيروي قصة تبوك بصورة اخرى لا تقتصر على هذه المعجزة بل تزيدها زيادة
كثيرة على غير ما ورد في سيرة ابن إسحاق: فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن معاذ بن جبل: " أن النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون - إن شاء
الله - غدا عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس
من مائها شيئا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشرك تبض
بشئ من ماء. فسألهما رسول الله: هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا: نعم، فسبهما
النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول (!) ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا
حتى اجتمع في شئ غسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء
منهمر - أو قال: غزير - حتى استقى الناس، ثم قال: يا معاذ يوشك - إن طالت بك
الحياة - أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا " (صحيح
مسلم 7: 60 ط 1332.) فهل ارتوى المسلمون في طريق تبوك بماء العين المنهمر - بعد السباب
! - أم بمطر من سحاب بدعاء مستجاب من نبي مجاب ؟ أليس في القليل الأول غنى عن
الثاني الكثير ؟ ! اللهم إلا أن نبني على ترجيح الحديث الأكثر إعجازا ولانقتنع
بالقليل منه ! هذا وقد روى ابن إسحاق بعد روايته خبر السحابة خبرا آخر يؤيده قال: " فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم ؟ قال: نعم
والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم
بعضا على ذلك، ولقد أخبرني رجال من قومي قالوا: لما كان من أمر الماء بالحجر
ماكان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا:
أقبلنا على رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار، فقلنا
له: ويحك ! هل بعد هذا شئ ؟ فقال: " سحابة مارة " اللهم إلا أن يكون
ذكر كثرة النفاق في بعض الصحابة مما يشنع ذكره ويسوء بعض الناس، وإن كان لم
يحذفه ابن هشام، واختار مسلم ما سلم من ذكره، وهذا هو الراجح في الظن. |
شرائط
دراسة التأريخ:
|
لا شك في أن البحث في التأريخ أمر خطير وعمل شاق جدا، فالباحث فيه كمن يريد أن يلج بحرا خضما هائجا، وإنما يمد ببصره إلى
قاعه ليغنم منه لآلئه ودراريه. والباحث في التأريخ إن كان يطمح من بحثه إلى
إحقاق الحق وازهاق الباطل، فإنه لا يتسنى له ذلك إلا إذا كان واسع الإطلاع، بعيد
النظر، شديد الحب للحق، موطنا نفسه على اتباعه، مبتعدا عن التعصب المذهبي
المقيت، ورعا في إصدار الأحكام، خبيرا بطرق الاستنباط، عارفا بأمراض التأريخ
وعلله، ملما بظروفه ومراحله، مؤثرا مصلحة الإسلام والمسلمين على ما سواها، متحرر
الفكر، غير مشدود لما ورثه من أهله وقومه. وذلك لمساس التأريخ - ولاسيما سيرة الرسول الكريم - بمختلف نواحي
الحياة. فمنه تؤخذ العقيدة
الدينية، وأحكام الإسلام، ومعارفه وعلومه، وأدبه وأخلاقه، وعلى أساسه تقول الأجيال
كلمتها في كل شئ، وعلى ضوئه تحكم على كل شئ. وقد ابتلي التأريخ والسيرة - ككثير
من الامور - بنظرتين مفرطة واخرى مفرطة: فمن مقبل على التأريخ والسيرة مكب على
أخذ ما فيه، غثه وسمينه، ينتهل منه ريه في كل جوانب الحياة، ويعتبره من أسلم
المسلمات بها، دون
حذر عما داخله من الدس والخرافات بعيدا عما نبه إليه الرسول من حتمية ظهور
المفترين عليه، غير معتبر بما اعترف به الزنادقة الملحدون مما رواه المؤرخون: أنهم
وضعوا آلاف الأحاديث كذبا على الله ورسوله حللوا بها الحرام وحرموا بها الحلال،
وأزالوا بها الحق عن نصابه، وزوروا كثيرا من الأحاديث الصحيحة وافتعلوا الكرامات
والمناقب حبا في المال والمناصب. وآخرون فرطوا فيه فغلبوا التشاؤم وتنكروا
للتأريخ جملة وتفصيلا، اتهموه ببعض ما فيه وتحاملوا عليه، وجعلوا ذلك حجة
لاعراضهم عنه وابتعادهم منه. وذلك ظلم قبيح وفصم لعرى الأجيال، وحرمان للمتأخرين
من دروس الماضي، وهدم لبناء الدين وطعن في تعاليم الأنبياء الذين حثوا على تدارس
الماضي والاستماع إليه، مع تمحيص الحق عما علق به من شوائب الباطل. وبين هاتين النزعتين المفرطة والمفرطة تنجلي النمرقة الوسطى
باهتمام مفكري المسلمين وعلمائهم بالدراسات التأريخية، وبذل الوسع لإماطة اللثام عن كثير من جوانبه التي بدت قائمة مشوهة
بفعل الدخلاء عليه، ممن جندوا أنفسهم لهدم الدين وطمس معالم الحق والتجني عليه (مقدمة:
دراسات في التأريخ الاسلامي: 8، 9 للشيخ محمد باقر الناصري بتصرف.). |
طمس
معالم الحق:
|
قلنا نعرض الروايات - التي يدعى أنها تسجل سيرة الرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله) - على القرآن الحكيم، ذلك لانا لو راجعنا وصف هذا النبي العظيم في
القرآن الكريم، لوجدناه
يصفه بأنه: * (على خلق عظيم)
* (القلم: 4.) و * (خاتم النبيين) * (الاحزاب:
40.) ينهى الناس عن الإستخفاف به * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء
بعضكم بعضا) * (النور: 63.) ويلعن الذين يؤذونه * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله) * (الاحزاب:
57.). ولكنا لو راجعنا بعض تلك
الروايات التي يدعى أنها تسجل لنا سيرته لوجدناه فيها: طفلا كسائر الأطفال، ورجلا يتكلم كسائر الجهال، بل أضعف عقلا من
سائر العقال، فهو بحاجة دائمة إلى من يشرف عليه ويدبر شؤونه، ويأخذ بيده ويرشده،
ويحل له مشاكله ويشد قلبه ويطمئنه، ويؤيده ويساعده، وإلا فهو يغضب فيكون غضبه
عجزا واضطرابا بل وسبابا (كما مر عن صحيح مسلم.) ويرضى
فيكون رضاه سخفا وميوعة ! وإلا
فكيف نفسر: أنه رأى الرأي
فنزلت الآيات تصوب رأي غيره وتفند رأيه، فقعد يبكي ؟ ! وأنه كان له شيطان يعتريه
ويأتيه في صورة جبرئيل ! ثم أعانه الله عليه فأسلم ! ولعله من فعل شيطانه أنه مر
على سباطة قوم فبال قائما ! ثم شرب النبيذ ؟ ! ثم إنه رأى زوجة ابنه بالتبني في
حالة مثيرة فعشقها ! وإنه كان يعشق عائشة حتى أنه حملها على عاتقه بطلبها لتنظر
إلى رقص السودان في مسجده، وخدها على خده ! ثم إنه ترك الجيش لينفرد بزوجته
ليسابقها في الصحراء ! والطامة الكبرى التي شملت شيخ الأنبياء إبراهيم: انه كان أولى بالشك من إبراهيم ! إلى ما هنالك مما يزيد في قبحه
على ما ذكر أكثر بكثير، كل ذلك مما " قد فاجأتنا به الأنباء والسير "
في المجاميع الحديثة وكتب السيرة ! وفيها عن حياته الزوجية مانتذمر من ذكره فضلا
عن القيام بأمره ! وأدهى ما في الأمر وأمر أنها مدونة في الكتب التي توصف بأنها
أصح كتاب بعد الذكر الحكيم، وهي تحاول أن تصور لنا سيدنا ومولانا ونبينا أفضل
الأنبياء والمرسلين وأشرف السفراء المقربين ! ! قال محققو سيرة ابن هشام في مقدمتهم: " ولعل النظر إلى تراث السالفين ولاسيما ما يتصل منه بعلم
السير نظرة فيها الكثير من التقديس، هو الذي حال دون هؤلاء وهؤلاء أن يقفوا من
هذا العلم موقفا فقدناه في جميع المؤلفين المتقدمين على اختلاف طبقاتهم، فلم نر
منهم من عرض لما تحمله السير بين دفتيها من أخبار تتصف بالبعد عن الحقيقة،
فنقدها وأتى على مواضع الضعف منها. هذا ما حرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة
إلى ما قبل أيامنا هذه بقليل، إذ رأينا الإيمان بأن في السيرة أخبارا لا تتصل
بالحق في قليل ولا كثير، تصحبه الجرأة ثم الإقدام، ورأينا فكرة جديدة تجري بها
أقلام مجددة، يتناول أصحابها الخبر أو الخبرين من السيرة، مما كان يتخذ مطعنا
علينا في شخص النبي - صلى
الله عليه وآله - أو ما
يتصل به، فخلصوه مما لصق به مما ليس منه، وأقاموا حوله سياجا من الحجج
والبراهين، صح بها وأصبح حجة على الطاعنين فيه. ومثل هذا ما فعله الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في قصة النبي - صلى الله عليه وآله -، وتزويجه زينب بنت جحش من زيد بن حارثة ثم ماكان من تزوج الرسول - صلى الله عليه وآله - إياها بعد تطليق
زيد لها مما أرجف فيه الطاعنون ولغوا لغوا كثيرا. ومنهم من عرض للكتاب في قصة أو
قصتين منه فصاغها في اسلوب جديد، ومثل للناس الخبر في قالب قصصي خرج به عن
أسانيده وذكر رواته - تلك الطريقة التي هي سر تقديس هذه الأخبار في هذه الكتب !
- فبدت المعاني في هذا القالب الجديد كما يبدو الجسد في الغلالة الرقيقة لاتكاد
تخفي منه شيئا. وهذا الاسلوب الجديد بما يتضمن من التهكم بالفكرة السقيمة والخبر
الغث، يخلق به المؤلف في القارئ روح التحفظ في قبول الأفكار وتسلمها. ومنهم من جرى مع ابن إسحاق في شوطه، فتناول السيرة كما تناولها ابن إسحاق، مبتدئا بميلاد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما سبقه أو عاصره من حوادث، ثم جرى يذكر حياة الرسول إلى أن قبضه
الله إلى جواره، ناقلا من الأخبار ما يرى فيها القرب من الحق، ومستبعدا مالايجري
في ذلك مع فكرته ومايعتقد، مفندا مزاعم الطاعنين رادا على المكذبين. فجاء كتابه
سيرة للرسول جديدة في اسلوبها، نقية من اللغو والهراء " (مقدمة
سيرة ابن هشام 1: ح، ط.). أجل، إذا كان المراجع إلى هذه المراجع - الصحاح وغيرها - ملئ النفس بتقديس النص تقديسا عشوائيا ساذجا، فهو يمتنع ويمنع عن
تقويم النصوص تقويما سليما يزنها بميزان الإعتبار. ولا مبرر لهذا التقديس ما لم يثبت أن هذا الحديث مما صدر عنه أو
من شؤونه أو من صفاته، اللهم
إلا إذا كان لايعرف شيئا مما يجب أن يتوفر في شخص رسول الله وخليفته وحجته على
عباده، وكان خالي الذهن عن المنطلقات الأساسية والضوابط الحقيقية التي يجب أن
يتوفر عليها من يحاول دراسة التأريخ بصورة علمية، وسيرة الرسول الكريم بصورة
خاصة (انظر مقدمة الصحيح في السيرة 1: 16، 17.). |
سحاب
مركوم على الحق المظلوم:
|
أما كيف حدث كل هذا الحديث الموضوع للنيل من كرامة الرسول الكريم (صلى
الله عليه وآله) ؟ فنحن
نرى ذلك من التعتيم الذي اصطنعه بنو امية وبنو مروان على معالم الشخصية النبوية،
مستفيدين من سياسة المنع من الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) بل إحراق ما كتبه كبار الصحابة عنه: ابتداء من الخليفة الأول إذ أحرق خمسمائة حديث كان قد جمعها هو من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) (راجع المصادر في كتاب النص والاجتهاد: 151.). ثم
اشتد الأمر على عهد الخليفة
الثاني فإنه جمع ما كتبه
الصحابة عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله)
وأحرقه، ولعل ذلك بعد أن اتصل به كعب الأحبار الحبر اليهودي المسلم. ولقد كان اليهود على فرقتين: فرقة تؤمن بالكتابة والتدوين وهم الفريسيون، وفرقة اخرى تؤمن بوجوب
الحفظ وعدم جواز كتابة شئ غير التوراة، ويقال لهؤلاء: القراء (شرح ذلك
النوري في كتابه الفارسي: لؤلؤ ومرجان: وفصله محمد حسن ضاضا في كتابه: التفكير
الديني عند اليهود.) وضعف أمر الفريسيين وكثر القراء، ويظهر أن كعب الأحبار كان من
القراء، كما يظهر من جوابه لعمر حينما سأله عن الشعر، فكان مما قاله عن العرب: " قوما من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم (أي يحفظونها على
ظهر القلب) ينطقون بالحكمة " وقد كان كعب عند حسن ظن الخليفة به فكان مقربا
عنده، فلعله قبل هذه النظرية من كعب الأحبار. ويشهد لذلك ما رواه ابن سعد في " الطبقات " والخطيب
البغدادي في كتابه " تقييد العلم " ونقله عنهما الشيخ أبو رية في
كتابه " أضواء على السنة المحمدية " قالوا: كثرت الأحاديث على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن
يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مشناة كمشناة أهل الكتاب (تقييد
العلم: 52 والطبقات 5: 140 والأضواء: 47 والنص المثناة والصحيح ما أثبتناه وهي:
الروايات الشفوية.) أو قال: ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فاكبوا عليها وتركوا
كتاب الله، واني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا ! فمنع من الحديث عن النبي (صلى
الله عليه وآله) إلا بشاهد، ومنع كبار الصحابة عن الخروج من المدينة، واستعمل
على الأمصار صغارهم ممن لا اطلاع له في الدين ولا معرفة له بأحكامه (كأبي
موسى الأشعري حيث استعمله واليا على البصرة سنة 18 ه وله ثمان عشرة سنة إذ ولد
في السنة الاولى للهجرة.). وروى ابن سعد في "
الطبقات " والخطيب البغدادي في كتابه الآخر " جامع بيان العلم وفضله
" ونقله عنهما الشيخ أبو رية في كتابه " أضواء على السنة المحمدية
": إن الذين جاؤوا بعد عمر ساروا على نهجه في المنع عن الحديث إلا
حديثا كان على عهد عمر (الطبقات 3 ق 1: 206 وجامع بيان العلم 1: 64 والأضواء: 47.). فنتج
عن سياسة المنع عن الحديث وعن كتابته أن نسي الناس سنن الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى
في الصلاة التي هي عمود الدين وركن الإسلام والكتاب الموقوت الذي يؤديه المسلمون
في كل يوم خمس مرات، أصبحوا لا يعرفون أحكامها وحدودها، حتى أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل الذين يفترض فيهم أن
يكونوا أعرف بأحكام الإسلام وشرائع الدين... إذن فكيف بحال غيرهم من عوام الناس
؟ ! وما هو مدى معرفتهم بدينهم وشريعتهم والحال كذلك ؟ ! ولا سيما الناس البعداء
عن منابع الثقافة الإسلامية، وبالأخص فيما يقل الإبتلاء به. فقد روى البلاذري في " أنساب الأشراف " والبيهقي في
سننه والمتقي الهندي في " كنز العمال " عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة: أن عمران بن الحصين صلى خلف علي (عليه السلام) فأخذ بيد مطرف بن
عبد الله وقال: لقد صلى صلاة محمد ولقد ذكرني صلاة محمد (انساب
الاشراف 2: 18 وسنن البيهقي 2: 68، وكنز العمال 8: 143.). ولا
شك في أن من سنن الرسول في الصلاة الجهر بالبسملة في الصلاة فكان علي (عليه
السلام) يجهر بها، فبالغ
بنو امية في المنع عن الجهر
بها سعيا في إبطال آثار علي (عليه السلام) (تفسير
النيسابوري بهامش تفسير الطبري 1: 79.) حتى
روى النسائي والبيهقي في سننهما عن ابن عباس أنه كان يقول: اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي (تعليقة
السندي بهامش سنن النسائي 5: 253.) حتى
بلغ الحال بالناس على عهد علي بن الحسين (عليه السلام) أن كانوا لا يعرفون كيف
يحجون بل حتى كيف يصلون (كشف القناع عن حجية الاجماع: 67.) ولذلك
تجرأ ابن الزبير على أن يقدم الصلاة قبل الخطبة يوم الجمعة، كما رواه الشافعي في كتابه " الام " عن وهب بن كيسان، ثم قال: كل سنن رسول الله قد غيرت حتى الصلاة (كتاب
الام للشافعي 1: 208.). ولذلك نجد الإمام السجاد (عليه السلام) يقول في دعائه يوم الجمعة
ويوم الأضحى: " اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع امنائك في
الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها. حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين
مقهورين مبتزين، يرون حكمك مبدلا وكتابك منبوذا، وفرائضك محرفة عن جهات شرعك،
وسنن نبيك متروكة " (الصحيفة السجادية: الدعاء 48.). وروى ابن سعد في "
الطبقات " عن الزهري قال:
دخلت على أنس ابن مالك بدمشق وهو وحده يبكي، فقلت: ما يبكيك ؟ قال: لا أعرف شيئا
مما أدركت، إلا هذه الصلاة وقد ضيعت (صحيح
الترمذي: 3: 302 وجامع بيان العلم 2: 244 والزهد والرقائق: 531 وضحى الإسلام 1:
365.). وروى الإمام مالك بن أنس بن مالك في كتابه " الموطأ "
عن جده مالك قال: ما أعرف شيئا مما أدركت الناس إلا النداء بالصلاة (الموطأ
1: 93 وشرحه 1: 122.). واستثنى الحسن البصري القبلة فقط فقال: لو خرج عليكم أصحاب رسول
الله ما عرفوا منكم إلا قبلكتم (جامع
بيان العلم 2: 244.). ولم يستثن عبد الله بن عمرو بن العاص شيئا إذ قال: لو أن رجلين
من أوائل هذه الامة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا
يعرفان شيئا مما كان عليه (الزهد والرقائق: 61.). ومع
هذه الحال فمن الطبيعي أن يروج سوق الوضاعين الكذابين وأن يصبحوا هم مصدر العلم
والمعرفة والثقافة للامة المسلمة. هكذا شاء الحكام، وهكذا استحق المحكومون إذ
ابتعدوا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (والموضوع
مهم وبحاجة إلى تحقيق وبحث، آمل أن اوفق لاخراج كتاب لي في هذا الموضوع.). أما
لماذا حاول بنو امية ورواتهم أن يستفيدوا من هذا الفراغ المفتعل بفضل المنع عن
الحديث، للنيل من كرامة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وسائر المقدسات
الإسلامية ؟ فإن ذلك
يعود إلى: أ - أن
الحقد والعداء الاموي الموروث من القديم ضد بني هاشم - بما فيهم النبي (صلى الله عليه وآله) - لم يدعهم يقتنعوا
بأنه نبي مرسل حقا: فقد قال أبو سفيان
للعباس لما رأى كثرة زحام الناس على التبرك بماء وضوء النبي يوم فتح مكة: يا عباس ! والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما ! فقال: ويحك
إنها النبوة ! فقال: نعم ! وقال
معاوية لما سمع المؤذن يقول:
أشهد أن لاإله إلا الله: لله أبوك يابن عبد الله ! لقد كنت عالي الهمة، ما رضيت
لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين (انظر شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 101 عن أحمد بن أبي طاهر في كتاب " أخبار
الملوك ".). وقال للمغيرة بن شعبة -
بعد أن ذكر ملك أبي بكر وعمر وعثمان وأنهم هلكوا فهلك ذكرهم -: وإن أخا هاشم ! يصرخ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول
الله، فأي عمل يبقى مع هذا ؟ ! لا ام لك... لا والله إلا دفنا دفنا (الموفقيات
للزبير بن بكار: 577 ومروج الذهب 3: 454 وشرح نهج البلاغة 5: 120.)، ولما
سمع المأمون بالخبر أمر بلعنه (الطبري 10: 286.). وقال
- أو تمثل - ابنه يزيد بقول ابن الزبعرى: لعبت هاشم بالملك فلا *
خبر جاء ولاوحي نزل لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ماكان فعل وتبعه الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان يقول: تلعب بالخلافة هاشمي * بلا وحي أتاه ولا كتاب فقل لله: يمنعني طعامي * وقل لله يمنعني شرابي (مروج
الذهب 3: 228.) وقرأ ذات يوم * (واستفتحوا
وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد) * (إبراهيم: 15، 16.) فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشاب وأقبل يرميه وهو يقول: اتوعد كل جبار عنيد *
فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ماجئت ربك يوم حشر *
فقل: يا رب خرقني الوليد (مروج
الذهب 3: 229.) وكان الوليد هذا مهملا لأمره قليل العناية بأطرافه، وكان صاحب ملاه
وقيان، وإظهار للقتل والجور، وتشاغل عن امور الناس بشرب ومجون، فبلغ من مجونه
أنه أراد أن يبني على الكعبة بيتا يجلس فيه للهو، ووجه مهندسا لذلك (اليعقوبي
3: 75.) مجوسيا ليبني له على الكعبة مشربة للخمر، وأراد أن ينصب قبة ديباج
على الكعبة ويجلس فيها ومعه الخمر، فخوفه أصحابه من ثورة الناس فامتنع (عن
الأغاني والطبري في نهج الصباغة 5: 340.). ب - ولذلك
فهم - كما رأينا - كانوا يريدون القضاء على هذا الدين ودفنه نهائيا، وذلك لأنه
كان يقف في وجه شهواتهم ومآربهم ويضر بمصالحهم. ج -
وبالتصوير المشوه للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) والإسلام العظيم كانوا
يحاولون تبرير كل انحرافات وسخافات الجهاز الحاكم، والتقليل من فضاعتها وبشاعتها
في أعين الناس، وذلك برفع الفوارق الكبيرة بين مواقفهم ومواقف النبي الاعظم (صلى
الله عليه وآله). أما ما يمثل لنا شخصية الرسول الكريم المستهدفة للامويين فلنذكر منه نماذج: 1 - نسمع الكميت بن زيد
الأسدي يمدح الرسول الكريم فيقول في
قصيدته البائية: إلى السراج المنير أحمد،
لا * يعدلني عنه رغبة ولا رهب عنه إلى غيره، ولو رفع النا * س إلي العيون وارتقبوا وقيل: افرطت. بل قصدت ولو * عنفني القائلون، أو ثلبوا ! اليك ياخير من تضمنت الأر * ض وإن عاب قولي العيب لج بتفضيلك اللسان ولو *
اكثر فيك الضجاج واللجب فيا ترى من الذي يحاول أن يعدل به عن مدح النبي (صلى الله عليه وآله) بالترغيب والترهيب ؟ ومن يرتقبون أن يمدح عوضا عنه - عليه الصلاة والسلام - ؟ وياترى بماذا خاطب الكميت النبي (صلى الله عليه وآله) غير أن يقال له: ياخير من تضمنت الأرض ! حتى يقال له: أفرطت في
مدحه ! من الذي يعنفه ويثلبه ويعيبه ؟ ومن الذي يكثر الضجاج واللجب على النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ ! ولعله قد أحس بأمر خطير خلف هذه السياسة الاموية فقال في اخرى: رضوا
بخلاف المهتدين، وفيهم * مخبأة اخرى تصان وتحجب فلعله يقصد بالمخبأة الاخرى تخريب دين النبي (صلى الله عليه وآله) بعد تشويه سمعة شخصه. أو ما ذكره الرجاليون وأصحاب الطبقات في
ترجمة خالد بن سلمة المخزومي الشهير بالفأفاء: أنه كان ينشد بني مروان هجو النبي (صلى
الله عليه وآله) (انظر
دلائل الصدق للمظفر 1: 29، وراجع: بحوث مع أهل السنة والسلفية: 101.). وقد
سبق هذا ما ذكروه في ترجمة عمرو بن العاص أنه لم يرض بضرب نصراني سب النبي (صلى الله عليه وآله) (الإصابة 3: 195 عن البخاري في تأريخه بإسناد صحيح، والإستيعاب بهامش
الإصابة 3: 193.). ولحق هذا ما رواه
المؤرخون في علل خروج زيد بن علي بن الحسين (رضي الله عنه): أنه دخل على هشام بن عبد الملك فسمع أن النبي (صلى الله عليه وآله) يسب عنده فلم يذكره ولم يغير على قائله (انظر كشف
الغمة للاربلي 2: 352 وكتب التراجم والرجال في ترجمة زيد (رضي الله عنه).). أو
أنه يقصد بالمخبأة ما رواه ابن عبد ربه الأندلسي في " العقد الفريد ":
أن الحجاج كتب إلى عبد الملك: أن خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله إليهم،
وكذلك الخلفاء يا أمير المؤمنين أعلى منزلة من المرسلين (عن العقد
الفريد 2: 354.). ولئن كانت هذه مخبأة يوما فإن ذلك لم يدم طويلا حتى حج الحجاج
ورأى الحجاج يطوفون بقبر الرسول (صلى الله عليه
وآله) ومنبره بالمدينة فقال: تبا لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية !
هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ؟ ! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من
رسوله ؟ ! قال المبرد: إن ذلك مما كفرت به الفقهاء الحجاج (الكامل
للمبرد 1: 222 وسنن أبي داود 4: 209 وشرح نهج البلاغة 15: 242 عن كتاب "
افتراق هاشم وعبد شمس " لأبي العباس الدباس. والنصائح الكافية عن الجاحظ:
81، ونقل جدلا حوله الدكتور طه حسين في كتابه: الايام.).
وبهذه النظرة فلا مانع لديه أن يرمي الكعبة بالمنجنيق - بل كما قيل - بالعذرة
أيضا (عن الفتوح لابن الأعثم الكوفي المتوفى 310 ج 2: 482 وعقلاء المجانين:
178.). ولا يرى أية حرمة لمقام إبراهيم (عليه السلام) فيحاول أن يضع رجله
على المقام فيزجره عن ذلك محمد بن الحنفية (طبقات
ابن سعد 5: 84 والمصنف لعبد الرزاق 5: 49 وربيع الابرار 1: 843.). وعلى
هذه النظرة أيضا: " هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك " فلا
استبعاد لما احتمله السيد المرتضى العاملي: أن
يكون الحجاج حين بنى مدينة (واسط) في العراق وسطا بين الكوفة والبصرة، حول
قبلتها من جهة الحجاز (الكعبة) إلى جهة الشام: إما قصر أمير المؤمنين (!) أو قبة
الصخرة التي بناها وأمر الناس بالحج إليها: فقد ذكر اليعقوبي: أنه لما استولى ابن الزبير على مكة والحجاز كان يأخذ الحجاج
بالبيعة له فلما رأى ذلك عبد الملك منعهم من الخروج إلى الحج، فضج الناس وقالوا:
تمنعنا من حج بيت الله الحرام وهو فرض من الله علينا ؟ ! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم: أن رسول الله قال " لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام،
ومسجدي، ومسجد بيت المقدس " فهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام ! وهذه الصخرة التي يروى: أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء، تقوم لكم مقام
الكعبة !. فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سدنة، وأخذ
الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة ! وأقام بذلك أيام بني امية (تأريخ
اليعقوبي 3: 8، وحياة الحيوان 1: 66 والبداية والنهاية 8: 280 والانافة في معالم
الخلافة 1: 129. وانظر بحثا في هذا في السنة قبل التدوين: 502 - 506.). وإلى
هذا أشار الجاحظ في بعض آثاره فقال
في المفاضلة بين بني هاشم وبني امية: وتفخر هاشم بأنهم لم يهدموا الكعبة، ولم يحولوا القبلة، ولم
يجعلوا الرسول دون الخليفة (عن آثار الجاحظ: 205.).
ويفصل هذا أيضا في بعض رسائله فيقول:
حتى قام عبد الملك بن
مروان وابنه الوليد بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو، فهدموا الكعبة واستباحوا
الحرمة، وحولوا قبلة واسط -
إلى أن قال - فأحسب
أن تحويل القبلة كان غلطا، وهدم البيت كان تأويلا، وأحسب مارووا من كل وجه: أنهم
كانوا يزعمون: أن خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم (عن رسائل
الجاحظ 2: 16.)... واحتمل
السيد المرتضى العاملي: أن
يكون هذا هو سر استحباب التياسر في القبلة لأهل العراق دون غيرهم عند أئمة أهل
البيت (عليهم السلام)، ويظهر أن خصوم الشيعة قد التفتوا إلى هذا منهم، ولذلك كانوا
يتهمون من يتحرى القبلة بالرفض. فقد روى الخطيب البغدادي: أن قاضي واسط أسد بن
عمرو قد رأى قبلة واسط رديئة فتحرف فيها فاتهم بالرفض (عن تأريخ
بغداد 7: 16 ونشوار المحاضرة 6: 36.). 2 - والمقايسة بين الرسول والخليفة، والتوهين بالكعبة لم يكن
يقتصر على الحجاج، بل
روى أبو الفرج الإصبهاني الاموي: أن خالد بن عبد الله القسري عامل هشام بن عبد
الملك على مكة ذكر النبي (صلى
الله عليه وآله) فقال:
أيما أكرم: رسول الرجل في حاجته أو خليفته في أهله ؟ ! يعرض أن هشاما خير من
النبي (صلى الله عليه
وآله) (الاغاني
19: 60.). وروى عن أبي عبيدة قال: خطب خالد القسري يوما فقال: إن
إبراهيم الخليل استسقى الله ماء فسقاه الله ملحا اجاجا (يقصد زمزم) وإن أمير
المؤمنين استسقى الله ماء فسقاه عذبا نقاخا (الاغاني 19:
60.) يقصد العين التي أجراها لسليمان بن عبد الملك بمكة قبل أن يحج
إليها وأجراها إلى المسجد الحرام (اليعقوبي
3: 38.). وروى
أنه قال لغلامه يوما: ابن امي ! أيما أعظم: ركيتنا أم زمزم ؟ ! فقال له: أيها الأمير من يجعل الماء العذب النقاخ مثل الملح
الاجاج ؟ ! وكان يسمي زمزم: ام الجعلان (الاغاني
19: 59.). وروى عن المدائني: أن خالدا كان يقول: لو أمرني أمير المؤمنين
لنقضت الكعبة حجرا حجرا ونقلتها إلى الشام (الاغاني
19: 60.). وروى أنه حبس بعض التابعين فأعظم الناس ذلك وأنكروه فبلغه ذلك،
فخطب فقال: قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه، والله لو
أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرا حجرا لنقضتها ! والله لأمير
المؤمنين أكرم على الله من أنبيائه (الاغاني
19: 60.). 3 - وتحامل ابن الزبير
على بني هاشم تحاملا شديدا وأظهر
لهم العدواة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أنه ترك الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله) في خطبته ! فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال: إن له أهيل
سوء يشرئبون لذكره ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به ! وأخذ أربعة وعشرين رجلا من بني
هاشم منهم محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس امتنعوا عن بيعته فحبسهم وهددهم أن يحرقهم بالنار: وقام خطيبا فنال من علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ولما عجز عنهم أخرجهم من مكة، فأخرج محمد بن الحنفية إلى
رضوى وعبد الله بن عباس إلى الطائف حتى توفي ابن عباس بها سنة 68 ه (اليعقوبي
3: 8.). واعتبروا أقوال الصحابة حجة كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الشيخ أبو زهرة في كتابه عن الإمام مالك: ووجدنا مالكا يأخذ
بفتواهم - أي الصحابة - على أنها من السنة، ويوازن بينها وبين الأخبار المروية
إن تعارض الخبر مع فتوى صحابي ! وهذا ينسحب على كل حديث عنه - صلى الله عليه
وآله ج وسلم - حتى ولو كان صحيحا (عن كتاب:
الإمام مالك لابي زهرة: 290.).
ونقل هذا السيد المرتضى
العاملي في مقدمته لسيرته
ثم علق عليه يقول: وليس هذا إلا لأن شأن رسول الله لم يكن عند هؤلاء في المستوى
الطبيعي اللائق به كما هو ظاهر. ثم نقل عن " الرسائل المنيرية " قوله:
والعجب منهم من يستجيز مخالفة الشافعي لنص له آخر في مسألة بخلافه، ثم لا يرون
مخالفته لأجل نص رسول الله (الصحيح 1: 24 عن مجموعة الرسائل المنيرية: 32.). هذه هي صورة عن مكانة
النبي (صلى الله عليه
وآله) وتعاليمه وقيمة أقواله
لديهم، نكتفي منه بهذا. ونقول: إن وجود هذه الخطط التي استهدفت شخصية الرسول الكريم بل كل
المقدسات الإسلامية، توجب علينا أن نقوم نصوص سيرته وروايات تأريخه وتأريخ
الإسلام. |
بماذا
نقوم النصوص ؟
|
بماذا نقوم النصوص ؟ وإن نحن أردنا ذلك فمن الضروري أن نعتمد فيه قبل كل شئ على: 1 - عرضه على القرآن الكريم - كما مر - فقد روي عنه (صلى الله
عليه وآله) - كما مر أيضا - أنه قال: تكثر لكم الأحاديث بعدي، فإذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب
الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالف فردوه (عن اصول
الحنفية للشاشي: 43.). وعن علي
بن الحسين (عليه السلام)
قال عن القرآن: " وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه، ونور هدى لا يطفأ عن
الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته ". وروى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قال: ما لم يوافق كتاب الله
فهو زخرف (عن اصول الكافي 1: 55.). وعن ابن عباس قال: إذا سمعتموني احدث عن رسول الله فلم تجدوه في كتاب الله أو حسنا
عند الناس، فاعلموا أني كذبت عليه (عن سنن
الدارمي 1: 146.). وعن ابن مسعود قال: فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه وما خالف
كتاب الله فدعوه (عن المصنف 6: 112 وجامع بيان العلم 2: 42، وحياه الصحابة 3: 191.). وعن
معاذ بن جبل قال: فاعرضوا على الكتاب كل شئ من الكلام ولاتعرضوه على شئ من
الكلام (حياة الصحابة 3: 197 عن كنز العمال 8: 87 عن ابن عساكر.). وأوصى ابي بن كعب رجلا فقال له: إتخذ كتاب الله إماما وارض به قاضيا وحكما (عن حياة
الصحابة 3: 576 عن حلية الاولياء 1: 253.). وعن
أبي بكر في خطبة له: فإن كانت للباطل غزوة ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر وتموت
السنن، فالزموا المساجد واستشيروا القرآن (البيان
والتبيين 2: 44 وعيون الأخبار لابن قتيبة 2: 233. والعقد الفريد 4: 60.). ولن
ينقضي العجب من بعض أهل الزيغ حيث نسب هذا القول - وهو عرض الحديث على القرآن -
إلى أهل الزيغ فقال: وقد أمر الله عزوجل بطاعته - أي النبي (صلى
الله عليه وآله) - واتباعه أمرا مطلقا لم يقيد بشئ كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل: ما
وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ (جامع
بيان العلم 2: 233 عن ابي عمر.). وأعجب من ذلك أن بعضهم نسب هذا الحديث إلى الزنادقة والخوارج !
فقال: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث، يعني ماروي عنه أنه قال: ماأتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته
وإن خالف كتاب الله فلم أقله. و: إنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله. وهذه
الالفاظ لا تصح عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث
قوم من أهل العلم وقالوا:
نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شئ ونعتمد على ذلك، فلما عرضناه على
كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله، لأنا لم نجد في كتاب الله: أن لا يقبل شئ من حديث رسول الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي
به والأمر بطاعته، وكذا ينهى عن المخالفة عن أمره، جملة على كل حال (بحوث مع
أهل السنة والسلفية: 68 نقلا عن جامع بيان العلم 2: 233.). وقال
أبو بكر البيهقي: والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل، فإنه ينعكس
على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على: عرض الحديث على القرآن (عن دلائل
النبوة للبيهقي 1: 26.). وقالوا بقول مطلق:
السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة (سنن
الدارمي 1: 145 وتأويل مختلف الحديث: 199، جامع بيان العلم 2: 234 ومقالات الاسلاميين
2: 324.). وحاول الخطابي في شرحه لسنن أبي داود أن يجد من الحديث ما ينفي
أحاديث العرض على الكتاب، وذلك في شرحه لقوله (صلى الله عليه وآله) " لا
ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما
ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ". قال الخطابي معلقا على هذا الحديث: في الحديث دلالة على أن لا حاجة إلى عرض الحديث على الكتاب، وأنه
مهما ثبت عن رسول الله شئ كان حجة بنفسه فأما ما رواه بعضهم أنه قال: إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه... فإنه
حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث
وضعته الزنادقة (نقلا عن عون المعبود في شرح سنن ابي داود 4: 329 من الطبعة الحجرية.). وقد بحث هذا الموضوع العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني في
كتابه " بحوث مع أهل السنة والسلفية " وخلص إلى القول: بأن هذه الأحاديث - أي أحاديث عرض الحديث على الكتاب - ناظرة إلى
قبول الموافق ورد المخالف، أما مالا يوافق ولا يخالف فهو باق تحت حجية الأخبار،
فعدم وجود معنى حديث ما في كتاب الله لا يفيد مخالفة هذا الحديث له. 2 - بالإعتماد على القرآن
الحكيم علينا أن نحدد معالم شخصية الرسول الكريم التي تمثل أسمى إنسان وجد ويوجد
على وجه الأرض، متصفا بصفات الفضل والكمال متخليا عما عداها، حتى جعله الله لنا
اسوة وقدوة مطلقا فقال: *
(ولكم في رسول الله اسوة حسنة) * (الممتحنة: 6.) فهو كما وصفه حفيده الإمام الهادي (عليه السلام) في الزيارة الجامعة: " عصمكم الله من الزلل وآمنكم من الفتن، وطهركم من الدنس،
وأذهب عنكم الرجس وطهركم تطهيرا " فهو المعصوم عن المعاصي والمبرأ من كل
عيب وعاهة وآفة منفرة للناس عنه، فلا يرى في اعماله أي تشتت أو ضعف، ولا في
اقواله أي تناقض أو تهافت أو سخف، بل الفضائل الكاملة، والصفات الإنسانية
الرفيعة الفاضلة: حكمة وعلما، وشجاعة وحزما، وسكينة ووقارا، و... وبكلمة: هو
خليفة الله في أرضه وحجته على عباده. فنلاحظ إن كان النص منسجما مع هذه الشخصية العظيمة قبلناه، وإلا رددناه. وإلا فكيف ننسب إلى هذه الشخصية أنه حمل حليلته عائشة على متنه لتشاهد أغاني السودان ؟ ! أو أنه شرب النبيذ ؟ ! أو أنه
بال قائما ؟ ! أو أنه شك في نبوته ؟ ! أو أنه أثنى على الأوثان تقريبا للمشركين
إلى نفسه ؟ ! وما شاكل ذلك. 3 - وبالإقتداء بالقرآن الكريم الذي إنما خاطب اولي الألباب
والعقول، وجعل العقل - القطعي الإتفاقي - حكما فيما يقول وذم العقلاء على
مخالفتهم لحكم عقولهم... فليكن
ذلك هو موقفنا في جميع
القضايا التأريخية أيضا، فنتأكد من إمكان حدوثه تأريخيا. هذا بعد التأكد من
سلامة النص من التناقض والمعارض، والنظر في طبقات
الرواة وعلاقاتهم السياسية
وغيرها، والتأكد من سلامة
سند النص من الوضاعين والكذابين وأصحاب الأهواء السياسية وغيرها. بعد كل ذلك وبالأخذ بنظر الإعتبار جميع تلك المقاييس، يكون
بإمكاننا أن نقوم النصوص غير القليلة التي تسعى أن تصور الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بمظهر صبي جاهل عاجز مهين ! فلا ندع لها فرصة التسلل إلى سيرته (صلى الله عليه وآله). وحينئذ يكون بإمكاننا أن نتقدم إلى المسلمين بنص من ثروة التراث
يكون مصدر فخر واعتزاز. وهذه
ميزة يمتاز بها تأريخ الإسلام،
وهي أنه ينطلق عن قواعد بإمكانها أن تهدي الباحث إلى الطرق الامينة والتي بإمكان
سالكها أن يصل بها إلى الحقيقة التي يريدها مطمئن النفس راضي الضمير، شريطة
التزامه بتلك القواعد والضمانات المشار إليها فيما مر. |
واستداركا
لما فات:
|
واستداركا لما مر نقول: إن المدون من تأريخ الإسلام - بما فيه مما مر ذكره - مع ذلك يعتبر أغنى تأريخ مطلقا، ذلك لإمتيازه بدقته وشموله، فتراه
يلمح اللمحات، ويلتفت مع اللفتات، ويتحرك مع الحركات، ويتحدث عن الأحداث، ويتكلم
بالكلمات، ويقف في المواقف بدقة وشمول منقطع النظير، ويملك لذلك من النصوص الشئ
الكثير، بحيث لا يشابهه أي تأريخ مطلقا، فإنه ليس بإمكان أي تأريخ آخر أن يثبت
الكثير من أحاديثه عن الحوادث الكبرى بصورة قطعية فضلا عن الجزئيات من الامور. لكن لا بد لمن يريد الإفادة من كتب التأريخ الإسلامي من أن يفتح
عينه ووعيه لكل كلمة منه، فيطالعها بوعي ويقظة وحذر، يسعى لاستخلاص ماينسجم منه
مع الواقع ويرد ما عداه، مما مال به القائل أو لعبت به الأهواء، ولاسيما ما
يتعلق منه بصدر الإسلام، مما
يتحكم فيه الهوى المذهبي والتزلف إلى الخلفاء والامراء والحكام فيذكر الأمر
منقطعا عن علله وعوامله ومنفصلا عن أسبابه وجذوره، وذلك بفعل التعصب البغيض
والظلم الكثير. فالمؤرخ كان لا يكتب ولا يثبت إلا ماينسجم مع نفسية الحاكم،
ويتفق وقوله، مهما كان مخالفا للواقع والحقيقة، ولإتجاه المؤرخ عقيدته أيضا، فهو يشوه امورا صدرت من الحاكم أو
غيره ويحيطها بالغموض والإبهام، أو يهمل أحداثا ويتجاهل شخصيات لها أثرها في
التأريخ، ويختلق أحداثا أو شخصيات لا وجود لها، أو يسهب الكلام في وصف غرام أو
مجلس رقص أو غناء وشراب ويعنى بامور حقيرة تافهة. بينما مهمة المؤرخ أن يعكس حياة الامة وما عرض لها من أزمات
فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وبصورة عامة كل ما مرت به من أوضاع وأحوال، وذلك بدقة وأمانة.
وليس بخاف ما في ذلك من الأثر الكثير في حياة الامة ووضعها في الحال الحاضر:
عقائديا وعلميا وادبيا واجتماعيا، حسب اختلاف الأحداث عمقا وشمولا. ولا ينفي ترتب هذا الأثر البارز أن يكون الحدث التأريخي قد مر
على تأريخه أكثر من ألف عام. قلنا: إن
المسلمين اهتموا بتدوين تأريخهم مالانراه لغيرهم، وإنه بالرغم مما ذكر فهو أثرى
تأريخ امة مطلقا. ولكن هذا لا يعني أن تدوينه لم يتأثر بالأهواء السياسية ومختلف
العصبيات المذهبية وغيرها، مما أدخل فيه الأباطيل والموضوعات. الأمر الذي فرض
علينا أن نتخذ من المبادئ القرآنية والإسلامية، وشخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، مقياسا لتقييم كثير من النصوص والحكم عليها من خلال انسجامها مع
كل ذلك، وهكذا بالنسبة إلى كل شخصية من إمام معصوم وغيره حصلنا منه على علم عام
بسيرته وأخلاقه، مستعينين بالكثير من أدوات البحث الاخرى التي توفرها الممارسة
الطويلة في هذا الموضوع، كتناقض النصوص، أو التوصل إلى عدم إمكان وقوع ذلك الحدث
في تلك الفترة الزمنية أو بالنسبة إلى الشخصية المنسوب إليها. |
بحث
الأسناد:
|
إن هذه الحالة -
حالة عدم الأمانة التامة - لا
تدعنا نعتمد على الأسانيد لتكون ميزانا نهائيا ومقياسا مطلقا في موضوع التأريخ،
إذ إن ذلك يعني أن نحصر أنفسنا في حصار نصوص يسيرة تكاد لا تفي حتى بالفهرسة
الإجمالية لسيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه
وآله) ومجمل تأريخ صدر
الإسلام، ويعني أن نفقد الكثير من النصوص الصحيحة التي لم تحتفظ بسند فيه أدنى
شرائط القبول، وسوف يفقد الناقد حرية حركته بين النصوص للإستنتاج. إذن، فلا يمكن
ملاحظة شروط الأسناد إلا بالنسبة لما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)،
أما في خصوص النصوص التأريخية فإنه
لا يتيسر ملاحظة ذلك، ذلك
لأن التأريخ قد
دون بأيد قد تكون أمينة ولكن لا على الإطلاق ولاسيما بالنسبة لأسناد ما دونوا من
أخبار، وعلى هذا، فلا بد
من ملاحظة أكثر ما يمكن للتأكد من عدم الجعل والتحريف فيها قبل قبولها على أنها
من التأريخ المعتمد عليه. وبكثرة
الأكاذيب والأباطيل في الأحاديث والأقاويل التأريخية، بسبب تلاعب الأهواء
المذهبية والسياسية كما سبق،
فان الاستناد إلى أفراد معينين من المؤرخين أو نوعية معينة من الكتب التأريخية ربما تحرم الباحث من كثير من الحقائق التأريخية المبعثرة هنا
وهناك، والتي أمكن لها أن تصل إلينا عبر الموانع المتعددة سليمة من كثير من
التحريف، بما أن الساسة لم يروها، أو لم يروا فيها ما يشكل خطرا عليهم، وكذلك
المتعصبون من أرباب المذاهب، فبقيت بعيدة عن متناول أيديهم ورماحهم وغوغائهم،
وآمنة من تعنت المتعصبين وجبروت الطواغيت كي نتلقفها اليوم بسلام. |
دراستنا
نحن للتأريخ:
|
دراستنا نحن للتأريخ: ونحن هنا نحاول بدورنا أن نستخلص صورة نقية واضحة ما أمكننا من
تأريخنا تأريخ الإسلام، وبصورة أساسية نهتم لنبتعد عن ذلك القسم الموضوع المكذوب
من النقول التأريخية، والتي لا تعدو في الحقيقة والواقع عن أوهام من خيالات
أصحاب الأهواء والأغراض من المحدثين والقصاصين. والبداية الطبيعية لتأريخ
الإسلام هي سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهذه البداية الطبيعية تفرض علينا أن نلاحظ أولا شيئا عن تأريخ
ما قبل البعثة النبوية الشريفة، كي نتعرف على المناخ والجو الذي ظهر فيه الإسلام
إلى العالم. واعتمدنا فيما كتبناه هنا - حتى الإمكان - على أسبق ما كتبه أورواه
السابقون الأولون ولاسيما من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
دون المتأخرين فضلا عن المعاصرين إلا قليلا، إذ هو علم نقلي ليس للمتأخر إلا ما
كتبه المتقدم اللهم إلا في كيفية الإخراج والتأليف والتصنيف والترتيب والتنظيم
والتنسيق، ثم توجيهه وتحليله كل في حدود إمكانه وطاقته. وقد أمسك اولئك المؤرخون
القدامى عن أية دراسة أو تحليل للحوادث والوقائع التأريخية، ولعله صيانة لنصوص
أحاديث تلك الحوادث، لا بشأن النبي (صلى الله عليه وآله) فحسب، بل إن التأريخ الإسلامي بصورة عامة كتب بدون دراسة أو تحليل
أو تحقيق. أجل إن أول من
فتح هذا الطريق بوجه المؤرخين الإسلاميين هو العالم العربي القاضي عبد الرحمن بن
محمد الخضري المالكي المعروف بابن خلدون (ت 808 ه)، فإنه أسس في " مقدمته
" اسس التأريخ التحليلي، وهي بما فيها من اشتباهات كثيرة في تحليل بعض
الحوادث تعد أثرا مفيدا جديدا مبتكرا في بابه. وقد كتبت بشأن النبي العظيم من النوعين الأول والثاني، أي التأريخ الوقائعي والتحليلي كتب كثيرة، ولكن يعوز النوع الأول: التحليل، ويعوز النوع الثاني في كثير من
الأحيان أنها على جانب كبير من الأخطاء العجيبة، حيث إنها اعتمدت على مصادر غير
معتبرة أو على كتب المستشرقين. فبالنظر إلى هذين الإشكالين الأساسيين
عمدنا في حدود إمكاننا
في دراستنا هذه أن
نتجنبهما، وذلك بأن: 1 - نسجل الحوادث المهمة التي تتميز بدروس لنا فيها، وأن ننقل ذلك من المصادر الأصلية الاولى المؤلفة في القرون الاولى الإسلامية.
2 - وأن
نقف عند ما أورده المعترضون
والمستشكلون من المستشرقين وغيرهم مما انتقدوا به الإسلام ورسوله، فنجيب على كل ذلك بأجوبة صحيحة قطعية واضحة بينة، وأن ندفع أية
شبهة أو إشكال قد يورد على التأريخ الإسلامي لدى شيعة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
حسب المصادر والشواهد التأريخية الناطقة. والله الموفق والمعين، وهو الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم،
فهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. محمد هادي اليوسفي الغروي |
الفصل
الاول البيئة العربية والظروف العالمية قبيل ظهور الإسلام
|
الجاهلية
في القرآن الكريم:
|
الجاهلية في القرآن الكريم: قلنا: إن البداية الطبيعية لتأريخ الإسلام
تفرض علينا أن نتعرف أولا على حالة العرب قبل الإسلام كي نتعرف على المناخ والجو
الذي انطلقت فيه الدعوة إلى الإسلام، وخير
كلام في هذا المقام كلام الإمام العلامة الطباطبائي في تفسيره " الميزان
" قال: إن القرآن يسمي عهد
العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، وليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم
يومئذ الجهل دون العلم، وأن المسيطر عليهم في كل شئ الباطل دون الحق، وكذلك
كانوا، على مايقص القرآن من شؤونهم: قال تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن
الجاهلية) (آل عمران: 154.). وقال * (أفحكم الجاهلية يبغون) (المائدة: 50.). وقال: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية
حمية الجاهلية) (الفتح: 26.). وقال: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى) (الأحزاب:
33.). كانت
العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها إمبراطورية
الروم وهي نصرانية أيضا، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك مصر والهند
وهما وثنيتان، وفي أرضهم طوائف من اليهود. وهم وثنيون يعيش أكثرهم عيشة القبائل،
وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية
والنصرانية والمجوسية، وهم سكارى في جهالتهم. وكانت
العشائر البدو على ما لهم من خساسة
العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن الغارات واختطاف ما في أيدي الآخرين من متاع
أو عرض، فلا أمن بينهم ولا أمانة، ولا سلم ولا سلامة، والأمر لمن غلب، والملك
لمن وضع يده عليه " ومن عز بز ". أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور
واتباع الظالمين وهضم حقوق المظلومين، والتعادي والتنافس، والقمار وشرب الخمر
والزنا، وأكل الميتة وحشف التمر. وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن
إرادة ولا من أعمالهن عملا، ولا يملكن ميراثا، ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد
بحد، كما عند اليهود وبعض الوثنيين، ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعن من
أحببن إلى أنفسهن، وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى المحصنات المزوجات منهن، ومن
عجيب بروزهن أنهن ربما كن يطفن بالبيت ليلا عاريات من ثيابهن (لأنهن لا يجدن
إحراما طاهرا). وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار
بالإرث، ومن الإرث زوجة المتوفى، ويحرم الصغار - ذكورا أو إناثا - والنساء. نعم
لو ترك المتوفى صغيرا ورثه ولكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون ماله، ولو
كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها، فلا مال تقتات به
ولا راغب في نكاحها ينفق عليها. والإبتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى
بها بينهم لدوام الحروب والغارات والغزوات فطبعا كان القتل شائعا بينهم. وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفرة البائرة كان يسرع إليها الجدب
والقحط، فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية
إملاق) * (الإسراء: 31.) وكانوا يئدون البنات: * (وإذا الموؤدة سئلت بأي
ذنب قتلت) * (التكوير: 8، 9.) وكان من أبغض
الأشياء أن يبشر الرجل بالانثى: * (وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو
كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا
ساء ما يحكمون) * (النحل: 58، 59.). وأما وضع الحكومة بينهم: فأطراف الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت رعاية أقوى
الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال، والروم لنواحي الغرب، والحبشة لنواحي
الجنوب، إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه
بالجمهورية وليس بها، والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة
رؤسائها وشيوخها، وربما تبدل الوضع بالسلطنة. وهذا هو الهرج (الفوضى) العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، ويظهر في كل ناحية من
أرض شبه الجزيرة بشكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم.
أضف إلى ذلك بلاء الامية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر
والقبائل. وكل هذا الذي ذكرناه من أحوالهم
وأعمالهم والعادات والمراسيم الدائرة بينهم
هو مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها، أوضح إفادة،
فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا، ثم بعد ظهور الإسلام
وقوته بالمدينة ثانيا، وفي الأوصاف التى تصفهم بها، والامور التي تذمها منهم وتلومهم
عليها، والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها.. إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما
ذكرناه. والتأريخ كذلك يذكر كل ذلك ويعرض من تفاصيله ما لم نذكره، لإجمال الآيات
الكريمة وإيجازها القول فيه. وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة مجمل هذه المعاني ما سمى
القرآن به هذا العهد " الجاهلية " فقد أجمل في معناها كل هذه
التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم. وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الفرس
والروم والحبشة والهند وغيرهم، فالقرآن يجمل القول فيه أيضا. أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم (من المجوس
والصابئة) فقد كانت
مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء
والحكام والعمال، فكانت
مقتسمة طبعا إلى طبقتين: طبقة
حاكمة فعالة لما تشاء، تعبث بالنفس والعرض والمال وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة
لا أمن لها في مال ولا عرض ولا نفس ولا حرية ولا إرادة إلا ما وافق من يفوقها. وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وائتلفت بهم، وأخذت مجامع قلوب
العامة وأفكارهم بأيديهم، فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس ودنياهم، تحكم
في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم، وفي دنياهم بالسوط والسيف. هذا وقد انقسمت الطبقة المحكومة أيضا حسب قوتها في السطوة والثروة
فيما بينهم، إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء والعجزة والعبيد، وإلى رب البيت ومربوبيه من النساء والأولاد، وكذا إلى الرجال
المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شؤون الحياة وإلى النساء المحرومات من
جميع ذلك والتابعات للرجال محضا والخادمات لهم فيما أرادوه منهن من غير استقلال
ولو يسيرا. ومجمل
هذه الحقيقة يظهر من قوله سبحانه: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * (آل عمران: 64.) وكذا
قوله سبحانه: *
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات:
13.) وقوله في النساء: * (إني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض) * (آل عمران: 195.) وفيما
أوصى به في التزويج بالفتيات والإماء: * (بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن) * (النساء: 25 .) الميزان 4: 151 - 154.). |
الجاهلية
في نهج البلاغة:
|
وبعد استعراض هذه الآيات من القرآن الكريم بشأن الجاهلية يكفينا أن
نتذكر بعض ما جاء عن علي (عليه
السلام) في " نهج
البلاغة " في ذلك: " وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار، منيخون بين حجارة
خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم،
الأصنام فيكم منصوبة والآثام فيكم معصوبة " (نهج
البلاغة، الخطبة: 91.). " والناس ضلال في حيرة، وحاطبون في فتنة، قد استهوتهم
الأهواء واستزلتهم الكبرياء واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من
الأمر وبلاء من الجهل " (الخطبة: 95.). " والأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء
ازل وإطباق جهل: من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة
" (الخطبة: 187.) |
معنى
الجاهلية:
|
معنى الجاهلية:
ومن مصاديق الحمية الجاهلية ما حاوله البعض أن يحرف في معنى الجاهلية من معنى
عدم العلم وفقدان المعرفة لديهم إلى أنها من الجهل بمعنى الحمية والغضب، كما قد
يقال: جهل زيد على عمرو بمعنى غضب عليه، وأنها ليست من الجهل بمعنى عدم العلم
والمعرفة. وهذا التوجيه ليس - كما
قلنا - إلا مصداقا من مصاديق الحمية الجاهلية، فإن الظاهر من إطلاق الجهل ليس
إلا بمعنى ما يقابل العلم والمعرفة، ولا تحمل على معنى الحمية والغضب إلا مجازا
بقرينة ما، كما فيما يستشهدون به من قولهم جهل عليه، فإن تعدية الجهل إلى
المفعول بلفظة " على " أجلى قرينة لفظية لذلك، وإلا فلا تحمل الكلمة
إلا على ما يقابل العلم فقط. وليت شعري ما يقول أصحاب هذا التوجيه غير الوجيه في معنى ما جاء في
الآيات الكريمة الأربع " ظن الجاهلية " و " حكم الجاهلية "
و " الحمية الجاهلية " و " تبرج الجاهلية " فهل يصح أن تفسر
الجاهلية في هذه الآيات بمعنى الغضب ؟ وقد رأينا أمير المؤمنين
(عليه السلام) وصف الجاهلية بالجهلاء تأكيدا للمعنى المعروف من الجاهلية، ثم
قال: " وبلاء من الجهل
" و " إطباق جهل " مما يؤكد ذلك أيضا ويدفع أي ترديد فيه. " لقد أوضح لنا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في
كلماته المتقدمة حالة العرب ومستواهم العلمي والثقافي، وأنهم كانوا يعيشون في
ظلمات الجهل والحيرة والضياع.. وهذا يكذب كل ما يدعيه
الآخرون - كالآلوسي وغيره - من أن العرب كانوا قد تميزوا ببعض العلوم: كعلم الطب
والأنواء والقيافة والعيافة... " (الصحيح
من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) 1: 48.). ويقول ابن خلدون بهذا الصدد " إن الملة - العربية - في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة،
وذلك لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة.. فالقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم
والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة.. فالامية يومئذ صفة
عامة " (مقدمة ابن خلدون: 543.). ويقول عن علم الطب عند
العرب: ".. طب يبنونه
- في غالب الأمر - على تجربة قاصرة على بعض الاشخاص متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه،
وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج. وكان
عند العرب من هذا الطب كثير، وكان
فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره " (مقدمة ابن خلدون: 493.). ويكفي أن نذكر هنا ما
رواه البلاذري في
اميتهم: إن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا، وفي الأوس والخزرج في المدينة إثنا عشر رجلا يعرفون القراءة والكتابة (فتوح
البلدان ق 3: 580.). ويقول ابن خلدون عن نوعية الخط عندهم " وكانت كتابة العرب بدوية وكان الخط العربي لأول الإسلام غير
بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط، ذلك لمكان العرب
من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع - لأجل ذلك - في رسمهم
المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من
رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم
فيها تبركا بما رسمه اصحاب الرسول " (مقدمة
ابن خلدون: 419.). بل ربما كانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيبا، فقد قال عيسى بن
عمر: قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف. فقلت له: أتكتب ؟ فقال بيده على فيه اي
اكتم علي، فإنه عندنا عيب (الشعر والشعراء لابن قتيبة: 334.). وقال ابن خلدون بهذا
الصدد: " مع ما
يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ، لأنه من جملة الصنائع، والرؤساء - أبدا
- يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها " (مقدمة
ابن خلدون: 544، فصل " أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم ".). فالذي رواه الرواة والمؤرخون يفيد نفي وجود أي لون من ألوان
التعليم، أو وجوده ولكن بنسبة صغيرة جدا حيث لا يتجاوز عدد المتعلمين عدد
أصابع اليدين والرجلين في كل بلدان الحجاز وحواضره. ذهب بعض المتأخرين من المؤرخين العرب - منهم محمد عزة دروزة في
كتابه: القرآن المجيد - إلى أن هناك في المدن الحجازية فئة من المتعلمين بنسبة لا يمكن
تجاهلها. وكل ما سجله هؤلاء
في كتبهم لتأييد رأيهم هو: - أن البيئة الحجازية - ولا سيما مكة والمدينة - كانت بيئة تجارية -، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة قريش، فكانت - بحكم عملها
وطبيعتها - على اتصال وثيق ومستمر مع البلاد المجاورة من الشام واليمن والعراق
والتي كانت على جانب لا بأس به من العلم والثقافة. وكانت البيئة الحجازية تضم فئات كتابية: يهودية ومسيحية اصيلة ونازحة من البلاد المجاورة، والتي كانت
تتداول ما بينها الكتب الدينية وغيرها قراءة وكتابة. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فقد ورد في القرآن العزيز أطول آية في سورة البقرة تطلب من الناس تسجيل كافة المعاملات والتصرفات وكتابتها نقدا أو
دينا صغيرة أو كبيرة ((البقرة: 282.)) فكيف تطلب هذه الآيات من الناس تحقيق كل ذلك دون وجود قسم من
المتعلمين في صفوفهم يكتبون ويدونون عن أنفسهم أو الآخرين. هذا بالاضافة إلى أن
كتبة الوحي بين يدي الرسول (صلى الله عليه وآله) بلغ عددهم أكثر من أربعين رجلا،
وأن كثيرا منهم كانوا مكيين، وهم الذين كتبوا القسم المكي من القرآن قبل هجرته (صلى
الله عليه وآله) إلى المدينة،
فهذا دليل على وجود المتعلمين في مكة وإن كانوا قليلين، سواء ممن كتب الوحي من
هؤلاء ومن لم يسلم بعد. كما إن الأسرى الفقراء من قريش الذين وقعوا في قبضة المسلمين في معركة بدر الكبرى في العام
الثاني للهجرة، والذين لم يستطيعوا أن يقدموا فدية نقدية لإطلاق سراحهم، كلف كل واحد منهم - ممن يجيد القراءة والكتابة - تعليم عشرة من
أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة لقاء إطلاق سراحهم، ويحدثنا البلاذري:
ان كثيرين منهم قاموا
بما كلفوا به من تعليم الأطفال في المدينة وأصبحوا بعدها أحرارا عادوا إلى مكة،
كما أسلم بعضهم بعدما لمسوا عدالة الإسلام وسماحته فكيف يعقل هنا أن يجيد قسم من الفقراء ومعدمي القرشيين القراءة
والكتابة ولا يتقنها أغنياؤهم وتجارهم وأرباب السلطان منهم ! (لمحات من تاريخ القرآن للسيد محمد علي الاشيقر، ط النجف: 36 و 37.). وخلاصة القول في جواب
هؤلاء هو أن نقول: إن
الجهل كان هو الحاكم المطلق ولا نلاحظ نحن فيهم أي شئ من العلوم قبل الإسلام بل
لا نرى إلا جهلا وحيرة وضياعا. أما ما استشهد به هؤلاء فلا يعدو أن يكون مما قام
به الإسلام لمحو الامية. أما أولوية أن يكون ذوو
الغنى والسلطان منهم يقرأون ويكتبون فقد عرفت فساده مما سبق عن ابن خلدون. وأما
عدد كتاب الوحي فقد
فند أكثر العدد العلامة السيد أبو الفضل مير محمدي في كتابه القيم " بحوث في تأريخ القرآن وعلومه ". ولا يفوتنا هنا أن ننوه إلى: أن اميتهم هذه كانت السبب في قوة حافظتهم التي امتازوا بها، فأصبح
الكثير منهم حفظة القرآن الكريم وأحاديث الرسول العظيم. لكن مستواهم الثقافي هذا كان السبب الطبيعي في أن ينظروا إلى أهل الكتاب عموما واليهود
خصوصا نظرة التلميذ إلى معلمه فتكون لهم الهيمنة الفكرية عليهم، مما بقيت آثاره
في أخبار رواتهم فيقول
الطبري: " عن
بعض أهل العلم من أهل الكتاب ". |
غيرة
وحمية، أم حمية جاهلية:
|
كما حاولوا أن يوجهوا الجاهلية بتفسيرها بمعنى الغضب لا عدم العلم
والمعرفة، كذلك حاولوا تحريف الحمية الجاهلية المذكورة في القرآن الكريم من
كونها صفة ذميمة إلى جعلها خصيصة ذات ميزة للعرب قبل الإسلام، وذلك بحذف صفة
الجاهلية وإضافة لفظة " الغيرة " إلى " الحمية ". والحقيقة هي أن الحمية صفة ذميمة، إذ هي تعني أن يكون النصر للقبيلة وذوي القرابة فقط، وإن العون لا
بد وأن يمحض لهم ظالمين كانوا أو مظلومين فلا بد من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة
سواء كان الحق له أو عليه، حتى
قال شاعرهم يمتدحهم بذلك: لا يسألون أخاهم حين يندبهم *
في النائبات على ما قال برهانا وفي المقابل تتحمل
القبيلة عنه كل جناية وجريمة يرتكبها، وتحميه من كل من أراده بسوء. وهذا هو
التعصب القبلي الذي لا يرحم ولا يلين. فالتعصب القبلي كان من مميزات الإنسان العربي وخصائصه. ومن الطبيعي أن يكون شعور أفراد كل قبيلة بالنسبة لأبناء قبيلتهم
قويا جدا، وذلك بدافع من شعورهم بالحاجة إلى قبائلهم للدفاع عن أنفسهم. وهذا هو السر في شجاعتهم أيضا، وذلك أنهم بحكم بيئتهم وحياتهمفي الصحراء بلا حواجز وموانع طبيعية
أو غيرها، كانوا يشعرون بحاجتهم إلى حماية أنفسهم والدفاع عنها، ولا يرد عنه إلا
يده وسيفه ثم أهله وعشيرته، وهو يرى نفسه في كل حين عرضة للغزو والنهب والسلب
والغارات والثارات. إن حياة البادية والغزو
المفاجئ وعمليات الاغتيال ثأرا التي كانت تهددهم دائما، كل ذلك كان يستدعي سرعة الإقدام ومباشرة العمل فورا، فإذا اضيف إلى ذلك عدم شعورهم بالمسؤولية عما يفعلون، فإن الإقدام بلا ترو ولا تريث لا بد وأن يصبح هو الصفة المميزة
لهم والطاغية على تصرفاتهم.. ولذا فقد قل أن تجد فيهم حليما. وأخيرا فقد نعى القرآن
الكريم على الجاهلية هذه الحمية فعبر عنها بالحمية الجاهلية، وهذا يعني أنها
كانت من دون تثبت في الفكر والرأي بل للجهل، فكيف تكون ميزة ؟ ! أجل إن الإسلام
حاول أن يضع هذه الحمية في خطها الصحيح وأن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانية وعواطف حقيقية وفضائل أخلاقية،
وبالأخص من إحساس ديني صحيح، وأن
يستفيد منها في بناء الامة على
اسس صحيحة وسليمة. فقد حاول أن يوجه العصبية القبلية وجهة بناءة ويقضي على كل
عناصر الشر والانحراف فيها، فدعى إلى بر الوالدين وإلى صلة الرحم، وجعل ذلك من
الواجبات وذلك لربط الامة المسلمة بعضها ببعض. وفي الوقت نفسه أدان كل تعصب لغير الحق وندد به وعاقب عليه،
واعتبر ذلك من دعوات الجاهلية المنتنة كما جاء في بعض نصوص الاحاديث. وكذلك حاول أن يوجه غيرتهم وحميتهم وشدتهم إلى حيث قال تعالى: * (أشداء على الكفار) * (الفتح: 29.). |
بناء
الكعبة المعظمة:
|
بناء الكعبة المعظمة: يجدر بنا ونحن نحاول دراسة التأريخ الإسلامي أن نتعرف على تأريخ
بناء الكعبة في مكة المكرمة، وذلك يجرنا إلى البدء بتأريخ بانيها إبراهيم (عليه
السلام)، فلنبدأ به: ومن اجمع ما يتضمن قصة الخليل (عليه السلام) ما جاء في "
روضة الكافي " بسنده عن علي بن إبراهيم القمي، عن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله
الصادق (عليه السلام) يقول: إن
إبراهيم (عليه السلام)
كان مولده بكوثاريا وكان أبوه من أهلها، وكانت ام إبراهيم وام لوط (عليهما السلام)، سارة وورقة اختين، وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا، ولم
يكن رسولا. وكان إبراهيم (عليه
السلام) في شبيبته على
الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه
واجتباه وانه تزوج سارة ابنة (قد علق العلامة المجلسي في الجزء 26 من مرآة العقول على ذلك بأنه لا
بد وأن تكون ابنة ابنة لاحج، ولعل السقط من النساخ حيث تصور أنها زائدة.) لاحج،
وهي ابنة خالته، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد
ملكت إبراهيم
(عليه السلام) جميع
ما كانت تملكه، فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثاريا
رجل أحسن حالا منه. وإن إبراهيم لما كسر اصنام نمرود وأمر به نمرود فاوثق، وعمل له
حايرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار، ثم قذف إبراهيم (عليه السلام)
في النار لتحرقه، ثم اعتزلوها حتى خمدت النار. ثم اشرفوا على الحاير فإذا
إبراهيم (عليه السلام) سليما مطلقا من وثاقه. فاخبر نمرود خبره، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام)
من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عند
ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في
بلادكم ! واختصموا إلى
قاضي نمرود فقضى على اصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام)
ماله ! وأخبر بذلك نمرود،
فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله ويخرجوه وقال: إنه إن بقي في بلادكم
أفسد دينكم (!) وأضر بآلهتكم. فأخرجوا إبراهيم ولوطا (عليهما السلام) معه من بلادهم إلى الشام. فخرج إبراهيم
- ومعه لوط لا يفارقه - وسارة،
وقال لهم " إني ذاهب
إلى ربي سيهدين " يعني
إلى بيت المقدس. فتحمل إبراهيم بماشيته وماله، وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد
عليها الاغلاق غيرة منه عليها. ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وصار إلى سلطان رجل
من القبط يقال له: عزارة، فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه، فلما انتهى
إلى العاشر ومعه التابوت قال
العاشر لإبراهيم (عليه
السلام): إفتح هذا التابوت لنعشر ما فيه، فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشره ولا نفتحه. فأبى
العاشر إلا فتحه، وغضب إبراهيم (عليه السلام)
على فتحه. فلما بدت له سارة -
وكانت موصوفة بالحسن والجمال -
قال له العاشر: ما هذه المرأة منك ؟ قال إبراهيم (عليه
السلام): هي حرمتي وابنة
خالتي. فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت ؟ فقال إبراهيم (عليه
السلام): الغيرة عليها أن
يراها أحد ! فقال
له العاشر: لست أدعك تبرح
حتى اعلم الملك حالها وحالك. فبعث رسولا إلى الملك
فأعلمه، فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست افارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي ! فاخبروا الملك بذلك،
فأرسل الملك: أن احملوه والتابوت معه. فحملوا إبراهيم (عليه السلام)
والتابوت وجميع ما كان معه حتى ادخل على الملك، فقال له الملك: افتح التابوت ! فقال له إبراهيم (عليه السلام):
أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي. فغصب الملك إبراهيم (عليه السلام) على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها،
فأعرض إبراهيم
(عليه السلام)
وجهه عنها وعنه - غيرة
منه - وقال: اللهم احبس
يده عن حرمتي وابنة خالتي ! فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه ! فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا ؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره
الحرام، وهو الذي حال بينك وبين ما أردته من الحرام. فقال له الملك:
فادع إلهك يرد علي يدي، فإن أجابك فلن أعرض لها. فقال إبراهيم (عليه
السلام): إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي، قال: فرد الله عز وجل إليه يده. فأقبل الملك نحوه ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه
غيرة منه، وقال: اللهم احبس يده عنها. قال: فيبست يده ولم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم (عليه
السلام): إن إلهك لغيور، وإنك لغيور، فادع إلهك يرد إلي يدي، فإنه إن فعل
لم أعد ! فقال إبراهيم (عليه
السلام): أسأله ذلك على
أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله ! فقال له الملك: نعم، فقال إبراهيم: نعم. فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه. فرجعت إليه يده. فلما رأى ذلك
الملك من الغيرة ما رأى، ورأى الآية في يده، عظم إبراهيم (عليه السلام) وهابه
وأكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشئ مما معك فانطلق حيث شئت،
ولكن لي إليك حاجة ! فقال إبراهيم (عليه
السلام): ما هي ؟ فقال له: احب أن تأذن لي أن اخدمها قبطية عندي جميلة
عاقلة تكون لها خادما، فأذن إبراهيم (عليه السلام) فدعا بها فوهبها لسارة، وهى
هاجر ام إسماعيل (عليه
السلام). فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه،
وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إعظاما لإبراهيم وهيبة له، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم (عليه السلام):
أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط وهو يمشي خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه
وعظمه وهبه فإنه مسلط، ولا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة ! فوقف إبراهيم
(عليه السلام) وقال
للملك: امض، فإن إلهي أوحى إلي الساعة: أن اعظمك وأهابك، وأن اقدمك أمامي وأمشي
خلفك إجلالا لك ! فقال له الملك: أوحى إليك بهذا ؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): نعم. فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم، وانك ترغبني
في دينك ! وودعه الملك. فسار إبراهيم (عليه السلام) حتى
نزل بأعلى الشامات وقد خلف لوطا (عليه السلام)
في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم (عليه السلام)
لما أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا
فيكون لنا خلفا ؟ ! فابتاع إبراهيم (عليه السلام)
هاجر من سارة فتزوج بها، فولدت إسماعيل (عليه السلام)
(روضة الكافي: 304 - 306 ط النجف الأشرف، وانظر تفسير القمي 1: 206،
207 ط النجف الأشرف.). وروى علي بن إبراهيم
القمي في تفسيره عن أبيه
عن هشام عن أبي عبد الله
الصادق (عليه السلام) قال:
إن إبراهيم (عليه السلام) كان نازلا في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة
من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه،
فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه، إنما مثل المرأة مثل الضلع
الأعوج، إن تركتها استمتعت بها وإن أقمتها كسرتها. |
موضع
البيت
|
ثم أمره أن يخرج إسماعيل وامه، فقال: يا رب إلى أي مكان ؟ قال: إلى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من
الأرض وهي مكة. فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل. وكان إبراهيم
لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال: يا جبرئيل إلى ها هنا ؟ إلى ها هنا
؟ فيقول: لا، امض، امض، حتى أتى مكة، فوضعه في موضع البيت. وقد كان إبراهيم (عليه السلام) عاهد سارة: أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه
شجرة، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلوا تحته، فلما سترهم ووضعهم
وأراد الانصراف منهم إلى سارة قالت له هاجر: يا إبراهيم لم تدعنا في موضع ليس
فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ ! فقال إبراهيم: الله الذي
أمرني أن أضعكم في هذا المكان حاضر عليكم. ثم انصرف عنهم فلما بلغ كداء - وهو
جبل بذي طوى - التفت إليهم إبراهيم فقال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير
ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) * (ابراهيم: 37.) ثم مضى وبقيت هاجر.
فلما ارتفع النهار عطش
إسماعيل وطلب الماء، فقامت
هاجر في الوادي في موضع المسعى ونادت: هل في الوادي من أنيس ؟ ! فغاب عنها
إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنت أنه ماء وسعت، فلما
بلغت المسعى غاب عنها، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا فعادت حتى بلغت الصفا،
حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلما كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى
إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتى جمعت حوله رملا فزمته بما جعلته
حوله فلذلك سميت زمزم. وكانت جرهم نازلة بذي
المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء فنظرت جرهم إلى
تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي في ذلك الموضع قد
استظلوا بشجرة، وقد ظهر الماء لهما. فقالوا لهاجر: من أنت وما شأنك وشأن هذا
الصبي ؟ فقالت: أنا ام ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا
ها هنا. فقالوا لها: أيتها المباركة أفتأذني لنا أن نكون بالقرب منكما ؟ فلما زارهم إبراهيم (عليه السلام) في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن ها هنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى
يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ فقال إبراهيم: نعم. فأذنت، فنزلوا
بالقرب منهم وضربوا خيامهم، فأنست هاجر ام إسماعيل بهم. فلما زارهم إبراهيم في المرة الثالثة
نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بهم سرورا شديدا.
وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين فكانت هاجر وإسماعيل
يعيشان بها. فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله
إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت،
فقال: يا رب في أي بقعة ؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها
الحرم فلم تزل البقعة التي أنزلتها على آدم قائمة حتى كان طوفان نوح فلما غرقت
الدنيا رفعت تلك القبة وغرقت الدنيا إلا موضع البيت. فبعث الله جبرئيل (عليه
السلام) فخط له موضع البيت، وأنزل الله عليه القواعد من الجنة، ونقل إسماعيل
الحجر من ذي طوى، وبنى إبراهيم البيت فرفعه إلى السماء تسعة إذرع. وكان الحجر
الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج، فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام)
ووضعه في موضعه الذي هو فيه. وجعل له بابين: بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب
يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر (الاذخر:
نبات طيب الرائحة.) وعلقت هاجر إلى بابه
كساء كان معها فكانوا يكنون تحته. فلما بناه وفرغ منه نزل عليهما
جبرئيل (عليه السلام) يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم فارتو من
الماء. لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات
بها، ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام) (تفسير القمي 1: 60 - 62.). وروى علي بن إبراهيم القمي أيضا عن أبيه عن
معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن إبراهيم (عليه السلام) أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال: يا
إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك -
ولم يكن بين مكة وعرفات ماء - فسميت التروية
بذلك. فذهب به حتى انتهى به إلى منى فصلى به الظهر والعصر والعشائين والفجر، حتى
إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات فنزل بنمرة، وهي بطن عرفة. فلما زالت الشمس خرج
واغتسل فصلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وصلى في موضع المسجد الذي بعرفات - وقد كانت ثمة أحجار بيض فادخلت في المسجد الذي بني - ثم مضى به إلى الموقف فقال: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف
مناسكك. ولذلك سميت عرفة. فأقام به حتى غربت الشمس، ثم أفاض به فقال: يا إبراهيم
ازدلف إلى المشعر الحرام - فسميت المزدلفة - وأتى به المشعر الحرام، فصلى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد
وإقامتين، ثم بات بها فرأى في النوم أنه يذبح ابنه... حتى إذا صلى بها صلاة
الصبح أراه الموقف. ثم أفاض إلى منى فأمره فرمى جمرة
العقبة عندما ظهر له إبليس لعنه الله، وأمر أهله فسارت إلى البيت، واحتبس
الغلام، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى، فاستشار ابنه وقال - كما حكى الله * (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) * فقال الغلام - كما حكى
الله * (يا أبت افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين) *
(الصافات: 102.). وأقبل
شيخ فقال: يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام ؟
قال: اريد أن أذبحه ! فقال: سبحان الله ! تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين ! فقال له إبراهيم: ويلك إن الذي بلغني هذا المبلغ
هو الذي أمرني به ! فقال: لا والله ما أمرك بهذا إلا الشيطان ! فقال إبراهيم: لا والله لا
اكلمك، ثم عزم إبراهيم على الذبح. فقال: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك، وإنك إن
ذبحته ذبح الناس أولادهم ! فلم يكلمه. وأقبل إلى الغلام فاستشاره في الذبح، فقال
الغلام كما حكى الله: امض كما أمرك الله به، فلما أسلما جميعا لأمر الله قال
الغلام: يا أبت خمر (خمر:
استره بالخمار.) وجهي
وشد وثاقي ! فقال إبراهيم: يا بني ! الوثاق مع الذبح ؟ لا والله لا أجمعهما عليك اليوم، فرمى له
بقرطان الحمار (قرطان
الحمار: ما يجعل على ظهره من الجل والقماش.) ثم أضجعه عليه وأخذ المدية فوضعها على حلقه، ورفع رأسه إلى
السماء ثم انتحى عليه بالمدية فقلب جبرئيل المدية على قفاها وأثار الغلام من
تحته، واجتر الكبش من قبل ثبير الجبل الذي عن يمين مسجد منى وكان أملح أغبر أقرن
يمشي في سواد ويأكل في سواد، فوضعه مكان الغلام، ونودي من (قبل) مسجد الخيف * (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا
لهو البلاء المبين) * (الصافات:
104 - 106.). ولحق ابليس بام الغلام
بحذاء البيت في وسط الوادي فقال لها: رأيت شيخا ومعه وصيف قد أضجعه الشيخ وأخذ
المدية ليذبحه ! فقالت: كذبت، إن إبراهيم أرحم الناس، كيف يذبح ابنه ! قال: فورب السماء والأرض ورب هذا البيت، لقد رأيته أضجعه وأخذ
المدية ! فقالت: ولم ؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. فوقع في نفسها أنه قد امر
في ابنها بأمر، فقالت: فحق له أن يطيع ربه. ولما قضت مناسكها أسرعت في الوادي
راجعة إلى منى. (تفسير القمي 2: 224 - 226.). وما جاء في خبر علي بن
إبراهيم القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام): أن
الكعبة كانت قبل طوفان نوح قبة ضربها آدم (عليه السلام)
بموضع البيت، يؤيده
ما جاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة للامام علي (عليه
السلام) انه قال: " ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم - صلوات
الله عليه - وإلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا
تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا
وأقل نتائق الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة ورمال دمثة،
وعيون وشلة وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف. ثم امر آدم وولده: أن
يثنوا اعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع اسفارهم وغاية لملتقى رحالهم، تهوى إليه
الأفئدة من مفاوز سحيقة.. " (نهج
البلاغة، الخطبة: 192، صبحي الصالح.). ولعل هذا هو معنى قوله تعالى * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا
انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا
مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم) * (البقرة: 127 و 128.) فان رفع القواعد يفيد انها
كانت قد وضعت قبل ذلك وإن إبراهيم هو الذي رفعها وشيد على أساسها وإن لم تكن
بقيت بعد طوفان نوح، حيث قرأنا في الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن
جبرئيل هو الذي دل إبراهيم (عليه السلام) على موضع البيت. وحيث لاحظ إبراهيم (عليه السلام) أن البيت قد وضع في بقعة يصعب
فيها الحياة قال: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم
يشكرون) * (إبراهيم: 37.).
واستجيبت دعوته فاصبحت الكعبة قبلة المسلمين ومهوى افئدة المؤمنين. |
شبه
الجزيرة العربية مهد الحضارة الإسلامية:
|
هي شبه جزيرة كبيرة تقع في جهة الجنوب الغربي من آسيا، تقدر
مساحتها بثلاثة ملايين كيلومتر مربع، وهذا يعني أنها اكبر من مساحة إيران مرتين،
واكبر من فرنسا ست مرات، وأكبر من إيطاليا عشر مرات، وأكبر من سويسرا ثمانين
مرة. وهي شبه جزيرة مستطيلة غير متوازية الأضلاع تحدها من شمالها الشام
وفلسطين، ومن شرقها أرض الرافدين من الكوفة إلى البصرة ثم خليج فارس - كما كان
يسمى - ومن جنوبها خليج عدن والمحيط الهندي، ومن غربها البحر الاحمر. فهي محصورة
من جنوبها وغربها وقسم من مشرقها بالبحار وفي قسم آخر من مشرقها وشمالها ببادية
الشام أو الاردن والعراق |
وقد
قسموها قديما إلى ثلاثة اقسام:
|
1 - القسم الشمالي والغربي وهو الحجاز. 2 - القسم الشرقي
والمركزي وهو المسمى بالصحراء العربية. 3 - القسم الجنوبي وهو
اليمن. وفي شبه الجزيرة صحاري رملية حارة واسعة غير قابلة للسكنى كثيرة
منها: صحراء النفوذ، والربع الخالي الذي يمتد حتى حواشي الخليج الفارسي. وقديما
كان يسمى قسم منه بصحراء الدهناء والقسم الآخر بالأحقاف. وهذه الصحاري تشكل اكثر من ثلث الجزيرة غير المسكون بلا ماء ولا
كلأ إلا ما قد يوجد فيها من
آثار الامطار فيرعى حولها بعض العرب ابلهم لفترة غير طويلة. والجو فيها حار جدا،
وجاف كذلك إلا في بعض السواحل، وبعض النقاط المعتدلة نسبيا. ولذلك لا يتجاوز عدد
نفوسها بمجموعها عن عشرين مليونا تقريبا. وكانت جبال اليمن قديما تحتوي على الاحجار الكريمة وشئ من الذهب
والفضة، وغالبا ما كانوا
يكتفون من تربية الحيوانات بالابل والخيل، ومن الطيور كان اكثر ما عندهم النعام
والحمام. وفي الجزيرة جبال تمتد من الجنوب إلى الشمال آخر حد لارتفاعها 2470
مترا. |
ونشرح
هذه الاقسام الثلاثة من الجزيرة فيما يلي:
|
1 - أما الحجاز، وهو القسم الشمالي والغربي للجزيرة، فهو يمتد من الاردن إلى اليمن في سواحل البحر الاحمر، وهي اراضي
جبلية صخرية تتخللها صحاري قاحلة. ولهذه المنطقة ذكر في التأريخ اكثر من غيرها وذلك لاشتمالها على
الكعبة المعظمة. |
الكعبة
المعظمة ومكة المكرمة: "
|
وقد كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة: فكان الهنود
يعظمونها ويقولون: إن روح سيفا - وهو الاقنوم الثالث عندهم - حلت في الحجر
الاسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز. وكانت الصابئة من الفرس
والكلدانيين يعدونها احد
البيوت السبعة المعظمة، وربما قيل: إنه بيت زحل عندهم لقدم عهده وطول بقائه.
وكان سائر الفرس يحرمونها أيضا زاعمين أن روح هرمز قد حل فيها، وربما حجوا إليها
زائرين. وكان اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل، منها
تمثال إبراهيم وإسماعيل وبايديهما الازلام، ومنها صورة المسيح وامه، وهذا يشهد
بتعظيم النصارى لها أيضا. وكان العرب يعظمونها أيضا كل التعظيم ويحجون إليها على انها بيت الله بناها إبراهيم " (الميزان
3: 361، 362.). |
مدينة
مكة
|
ومدينة مكة من اشهر مدن العالم، واكثر مدن الحجاز نفوسا. وهي ترتفع عن سطح البحر 300 مترا تقريبا.
عدد نفوسها اليوم 150 الفا تقريبا. وتربتها غير زراعية. وللحجاز ميناءان على
البحر الاحمر: احدهما: جدة (جدة:
بكسر الجيم، بمعنى الصخور الساحلية. وفيها قبر بطول سبعة أمتار خمسة عشر ذراعا
منسوب إلى حواء ام البشر، قيل: ولذلك سميت جدة - بفتح الجيم - أي مرقد جدة البشر ! ولا يصح.)،
وهي ميناء مكة والاخرى:
ينبع، وهي كانت ميناء أهل
المدينة المنورة سابقا، واليوم اصبحت جدة هي الميناء الرئيسي في الحجاز. وفي
الحجاز من المدن المهمة بعد مكة: المدينة، والطائف. |
المدينة
المنورة:
|
المدينة المنورة: وهي تقع في شمال مكة على بعد خمسمائة كيلومتر تقريبا. وفي حواليها
نخيل وبعض البساتين لصلاح تربتها للزراعة نسبيا. وكان اسمها قبل الإسلام يثرب،
وبعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) إليها سميت: مدينة الرسول، وحذف المضاف
إليه تخفيفا فقيل: المدينة. ويقال: إن
العمالقة أول من سكنوا المدينة أو يثرب، وظلوا بها حتى نزلها اليهود في القرن
الثاني الميلادي على اثر اضطهاد الرومان لهم في فلسطين، والمظنون أنهم هاجروا من
موطنهم الأصلي في فلسطين إلى الجزيرة على إثر ضغوط القيصر نينوس عليهم وهدمه
لهيكلهم سنة 70 م وكذلك اصطدام القيصر هوريان بهم سنة 132 م ففي هذه الأثناء فر
كثير منهم إلى الحجاز (راجع: الجزء السادس من تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي.). ونرى أن الحجاز منطقة جرداء تقريبا لا تصلح للزراعة والعمل، فهي لا
تصلح للسكنى والحياة... وهذا قد جعل المنطقة في مأمن من فرض السيطرة عليها من
قبل الدولتين العظميين آنذاك: الروم والفرس، ولذلك لا نرى لهم أي أثر فيها، إذ
لم يكن لهم أي مغنم في تجهيز الجيوش إليها، فهم ان فعلوا ذلك كان عليهم أن
يرجعوا عنها خائبين خاسرين. وقد نقل بعض المؤرخين اليونانيين: أن القائد اليوناني الكبير: دمريوس، عزم على تسخير الجزيرة حتى وصل
إلى قرية: پترا - ولعلها ماء بدر - فقال له أهلها: أيها القائد اليوناني ! لماذا
تحاربنا ؟ فنحن نعيش في صحاري ليس فيها أي شئ للعيش، وقد اخترنا هذه الصحارى
القاحلة الجرداء كي لا نذعن لأمر احد، فاقبل هدايانا وانصرف عنا. والا فنحن
نعلمك أنك ستصاب بمصائب عظيمة ومشاكل كثيرة: واعلم أن أحدنا لا ينفك عما هو عليه
من الخلق والعادة، فلو تقدمت فينا وأسرت منا اناسا تريد أن تذهب بهم فإنك لن ترى
نفعا فيهم فإنهم سوف يقابلونكم بسوء الأعمال والنيات لا يغيرون شيئا مما هم عليه
! فقبل القائد اليوناني هداياهم وانصرف عن تسخير الجزيرة (بالفارسية، تمدن اسلام وعرب: 94.). |
2
- القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية وفيها صحراء النجد
|
2 - القسم المركزي والشرقي من الجزيرة يسمى الصحراء العربية
وفيها صحراء النجد، وهي
أراضي مرتفعة نسبيا وفيها قرى عامرة كذلك، منها " الرياض " التي أصبحت
في سلطة آل سعود عاصمة لهم، وهي الآن مدينة كبيرة. |
3
- القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن،
|
3 - القسم الجنوبي الغربي للجزيرة يسمى: اليمن، طولها من الشمال إلى الجنوب يقرب من سبعمائة وخمسين كيلومتر، ومن
الغرب إلى الشرق يقرب من اربعمائة كيلومتر، وتقرب مساحتها من ستين ألف ميل مربع،
في جنوبها مدينة: عدن، وهي اكبر مدن اليمن، ويحدها من الشمال صحراء نجد ومن
المشرق صحراء الربع الخالي، ومن المغرب البحر الاحمر، وأكبر موانئها ميناء:
الحديدة. واليمن هي اخصب نقاط الجزيرة واكثرها بركة ونعمة، ولها تأريخ
حضاري عظيم، فهي مملكة التبابعة الذين حكموها سنين طويلة. وكانت المركز التجاري
المهم ومفترق الطرق، وبها الاحجار الكريمة والذهب والفضة. وبها آثار حضارية ما
زالت باقية حتى اليوم. وهذا
يعني أن عرب اليمن كانوا قد بنوا هذه الاثار المهمة بهممهم العالية في عهد لم
تتوفر فيه الامكانات لهذه الاعمال الضخمة. وكانوا قد تقدموا في الزراعة والري
إلى حد تقرير البرامج المقررة والمنفذة حكوميا بدقة. فمن آثارهم التاريخية
ذلك السد المعروف بسد مأرب،
والذي ما زالت آثاره باقية، وهو الذي تهدم بالسيل الذي اطلق عليه القرآن الكريم
قوله سبحانه * (فأرسلنا عليهم سيل العرم) * وذلك حيث قال تعالى * (لقد
كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة
طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي
اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا
فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم
أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم ابليس
ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) (سبأ:
15 - 20.) وفي سورة قريش إشارة إلى تجارتهم في الصيف إلى اليمن * (لإيلاف
قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع
وآمنهم من خوف) * (قريش:
1 - 4.). يقول جرجي زيدان: " إن الآثار التي ظهرت من الحفريات الاثرية للمستشرقين تدل
على الحضارة الراقية في اليمن من سد مارب وفي صنعاء، ومدينة بلقيس. وكانت في
مدينة مأرب (وهي مدينة سبأ) قصور عالية قد زينت ابوابها وسقوفها بالذهب، ووجد بها أوان من
الذهب والفضة، وسرر معدنية كثيرة " (بالفارسية:
تمدن اسلام وعرب: 96.). وروى الشيخ الطبرسي عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن سبأ أرجل هو أم امرأة ؟
فقال هو رجل من العرب ولد عشرة، تيامن منهم ستة وتشاءم اربعة، فأما الذين
تيامنوا فالازد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار وحمير. فقال رجل من القوم: ما
أنمار ؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم
وغسان (مجمع البيان 8: 604، طبعة بيروت.). وفي " الكافي
" باسناده عن سدير: قال:
سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (قالوا
ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) * الآية،
فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية، وأموال
ظاهرة، فكفروا نعم الله عز وجل وغيروا مابأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم
من نعمة، * (إن الله لا يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) * (الرعد:
11.) فأرسل الله عليهم سيل
العرم، فغرق قراهم وخرب ديارهم وذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جنانهم * (جنتين
ذواتي اكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل) * ثم قال: * (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل
نجازي إلا الكفور) * (الميزان 16: 324.). وقوم سبأ من العرب
العاربة باليمن، سموا
باسم أبيهم سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان، كما
نقل رواة التأريخ. |
العرب
قبل الإسلام:
|
أ
- العرب البائدة:
|
أ - العرب البائدة: لا ريب في أن جزيرة العرب كانت موطن قبائل كثيرة من العرب منذ
القدم، وقد باد بعضهم على اثر حوادث خاصة سماوية وارضية، وذلك لاعراضهم عن ذكر
الله كما قال تعالى في قوم سبأ: * (فأعرضوا
فأرسلنا عليهم سيل العرم... ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور...
وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق... ولقد صدق عليهم ابليس ظنه
فاتبعوه) * (سبأ: 16 - 20.) ولذلك سمي هولاء بالبائدة. ولعل منهم قوم عاد المعاد ذكرهم في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة وقوم ثمود
المكرر ذكرهم في القرآن الكريم
اكثر من خمس وعشرين مرة. |
ب
- عاد قوم هود (عليه السلام):
|
ب - عاد قوم هود (عليه السلام): أما عاد فإنهم قوم من العرب من بشر ما قبل التأريخ كانوا يسكنون
الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم، ولا يحفظ التأريخ من حياتهم إلا أقاصيص
لا يطمأن إليها، وليس في التوراة الموجودة ذكر لهم. والذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو: أن عادا كانوا يسكنون وادي أو صحراء الأحقاف (الأحقاف: 21.) وهو
واد بين عمان وأرض مهرة إلى حضرموت والأحقاف هي الرمال الملتوية. وأنهم من ذرية
من حملهم الله مع نوح (عليه السلام) وكانوا ذوي خلقة قوية عظيمة وطوالا (الأعراف:
69، والسجدة: 15، والشعراء: 130.) وكان لهم تقدم ورقي في
المدنية والحضارة، ولهم بلاد عامرة وأرض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم
وبعث الله فيهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إلى أن يعبدوا الله ويرفضوا
عبادة الاوثان ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء:
130.)، فبالغ في وعظهم وبث النصيحة فيهم وأنار الطريق وأوضح السبيل،
وقطع عليهم العذر، فقابلوه بالاباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والانكار، ولم
يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون، وأصر جمهورهم على البغي والعناد، ورموه بالسفه
والجنون، والحوا عليه بان ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم ويتوعدهم به، فأرسل
الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه الا جعلته
كالرميم (الذاريات: 43.) كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (القمر:
20.)، ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى
القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة:
7.) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الأحقاف:
25.). فأهلكهم الله جميعا إلا هودا والذين آمنوا معه (هود: 58.) ولعله
لهذا يسمى عادا المهلكة بعاد الاولى، والثانية هي الباقية منهم (النجم:
5.). |
ج
- ثمود قوم صالح (عليه السلام):
|
ج - ثمود قوم صالح (عليه السلام): وأما ثمود فهم قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين
المدينة والشام، وهم من بشر ما قبل التأريخ أيضا لا يضبط التأريخ إلا شيئا يسيرا
من أخبارهم، ولقد عفت الدهور آثارهم، ولا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم. والذي يقصه كتاب الله من أخبارهم هو: أنهم كانوا امة من العرب يدل
عليه اسم نبيهم صالح (عليه السلام) وهو منهم (هود: 61.)
جاءوا بعد قوم عاد، وكانت لهم حضارة ومدنية، يعمرون الارض ويتخذون من سهولها
قصورا ويتخذون من الجبال بيوتا آمنين (الأعراف:
74.)، ويفجرون العيون ويحرثون ويغرسون جنات النخيل (الشعراء:
148.)، وكان في مدينتهم شعوب وقبائل يتحكم فيهم شيوخهم وسادتهم، وفيهم
تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون (النمل:
48.) فلما أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي (عليه السلام)،
وكان من بيت الشرف والفخار معروفا بالعقل والكفاءة (هود: 62،
والنمل: 49.) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وأن يتركوا عبادة الاصنام وأن
يسيروا في مجتمعهم بالعدل والاحسان وأن لا يطغوا ولايسرفوا (هود
والشمس.) فقام بالدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة وصبر على
الأذى في جنب الله، فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من الضعفاء (الاعراف:
75.). أما الطغاة والمستكبرون وعامة من تبعهم فقد اصروا على كفرهم
واستذلوا الذين آمنوا به ورموه بالسفاهة والسحر (الاعراف:
66، والشعراء: 153، والنمل: 47.)
وطلبوا منه البينة على كلامه وسألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة،
واقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة، فأتاهم بناقة على ما وصفوها له،
وقال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما وتكفوا عنها يوما فتشربها
الناقة، فلها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم، وأن تذروها تأكل في أرض الله ولا
تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (الاعراف:
72، والشعراء: 156، وهود: 64.) وكان الأمر على ذلك حينا. ثم إنهم مكروا وطغوا وبعثوا أشقاهم لقتل
الناقة فعقرها. وقالوا لصالح: إئتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح
(عليه السلام): تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (هود: 65.). ثم مكرت شعوب المدينة وأرهاطها بصالح * (تقاسموا
بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) * (النمل: 49.) * (فأخذتهم
الصاعقة وهم ينظرون) * (الذاريات:
44.) * (فأصبحوا
في دارهم جاثمين) * (الأعراف:
78.) * (وأنجينا
الذين آمنوا وكانوا يتقون)
* (النمل: 53.). وفي " الكافي
" بسنده عن أبي بصير قال:
قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه
السلام): * (كذبت
ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر) * (القمر:
23، 24.). قال: بعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه وعتوا عليه وكانت صخرة
يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها. فقالوا: إن كنت
تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء
(أي ذات حمل في الشهر العاشر) فأخرجها
الله كما طلبوا منه (و) أوحى الله تبارك وتعالى إليه: أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب
يوم. فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم، فيحبسونها فلا
يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا
إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء
الله. ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه
الناقة واستريحوا منها، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب ؟ ! فجاءهم رجل أحمر أزرق
ولد زنا لا يعرف له أب، يقال له: قدار، شقي من الأشقياء مشؤم عليهم فجعلوا له
جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت وأقبلت
راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف فلم يعمل شيئا فضربها ضربة اخرى فقتلها،
وخرت على الأرض على جنبها وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل، فرغا ثلاث مرات إلى
السماء وجاء قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته واقتسموا لحمها فيما
بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها. فلما رأى صالح أقبل إليهم وقال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم ؟ أعصيتم أمر ربكم ؟ فأوحى الله
تبارك وتعالى إلى صالح (عليه السلام): أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها
الله إليهم حجة عليهم، ولم يكن لهم فيها ضرر، وكان لهم أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا
قبلت توبتهم وصددت عنهم، وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم
الثالث. فأتاهم صالح وقال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم وهو يقول لكم: إن تبتم ورجعتم
واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم. فلما قال لهم ذلك كانوا أعتى وأخبث * (وقالوا يا صالح ائتنا بماتعدنا إن كنت من المرسلين) * (الأعراف:
77.) قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني
وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة. فلما كان أول يوم أصبحوا ووجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة
منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم
ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا
آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها، ولم يتوبوا ولم يرجعوا، فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا يا قوم أتاكم ما
قال لكم صالح. فقال العتاة منهم:
قد أتانا ما قال لنا صالح. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت
أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم، فماتوا جميعا في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم،
ولم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شئ إلا أهلكه الله، وأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم
موتى، وأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين (الميزان
10: 314، 316.). |
2
- القحطانيون:
|
2 - القحطانيون: هم
ابناء يعرب بن قحطان الذين كانوا يسكنون اليمن وجنوب جزيرة العرب، ويسمون بالعرب
العاربة أيضا. واليمنيون اليوم بصورة عامة والأوس والخزرج هم من نسل قحطان. وقد سبق أن قوم سبأ أيضا
كانوا من نسل قحطان، وكانت لهم حكومات ومساع عمرانية وحضارية أثرية ولهم خط يسمى
بالخط المسند. وكل ما يقال عن حضارة العرب قبل الإسلام فإنما هو من هؤلاء في
اليمن. |
3
- العدنانيون:
|
3 - العدنانيون: وهم ابناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل (عليه السلام) الذي قد تبين
لنا أنه امر بأن يذهب بابنه إسماعيل وامه هاجر إلى أرض مكة، فسار بهم إبراهيم
(عليه السلام) من أرض فلسطين إلى بطن واد منخفض بلا ماء ولا كلأ باسم مكة، فأجرى
الله لهم ماء زمزم. وكبر
إسماعيل فتزوج من قبيلة جرهم
الذين استأذنوا إبراهيم أن يسكنوا مكة فأذن لهم، فكان لإسماعيل نسل كثير، ومن
أحفاده عدنان، وقد تفرعت منه فروع عديدة أشهرها قبيلة قريش ومنهم بنو هاشم. |
أخلاق
العرب قبل الإسلام:
|
ونعني بالأخلاق هنا تلك الآداب الإجتماعية التي كانت رائجة بينهم
قبل الإسلام. وبصورة عامة نستطيع أن نلخص الخصال المحمودة العامة للعرب في بضعة
سطور فنقول: إن عرب الجاهلية - ولا سيما العرب المستعربة من نسل إسماعيل (عليه السلام) - كانوا
بالطبع أسخياء يكرمون من استضافهم، ولا يخونون أماناتهم إلا قليلا، ويرون نقض
العهد ذنبا لا يغتفر، وكانوا صريحين في أقوالهم، أقوياء في حفظهم، أقوياء في
فنون من الشعر والخطابة، يضرب بهم المثل في شجاعتهم وجرأتهم، مهرة في ركض الخيل
والرمي، يرون الفرار من الزحف عارا لا يغتسل. وفي مقابل هذه الصفات كانوا قد تلوثوا من مساوئ الأخلاق بما يذهب بكل كمال من هذه الخصال
ولولا أن تداركهم رحمة من ربهم بأن بعث فيهم رسولا من انفسهم يزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة، لما كنا نعايش اليوم نسلا من عدنان، بل كانوا قد التحقوا بالعرب
البائدة، وكانت تتجدد قصة اخرى عن هؤلاء البائدين. إن شيوع الجهل والخرافات والفساد فيهم كان قد قرب حياتهم من حياة الحيوانات، بحيث ينقل لنا التأريخ قصصا متعددة عن حروب امتدت خمسين سنة بل
مائة، ولم تبدأ إلا على مواضع
حقيرة لا يعبأ بها. إن عدم وجود حكومة متنفذة بينهم تضرب على أيدي الطغاة
والبغاة من ناحية، ومن ناحية اخرى سوء الوضع الجغرافي للجزيرة من حيث الماء
والكلأ، كانا عاملين جعلا أكثر العرب من البدو الرحل يجوبون الصحاري برواحلهم كل
عام سعيا وراء الماء والكلأ، وإذا رأوا أثرا منهما نصبوا خيامهم حولها، وإذا
علموا - أو أخبرهم رائدهم - بمكان أنفع مما هم فيه بدأوا الرحلة من جديد. إن الجهل والفقر وفقدان
النظام كان قد خيم على بيئة الجزيرة العربية بصورة ظاهرة بحيث أصبحت لهم تلك
العادات القبيحة امورا اعتيادية، فكثرت فيهم الغارات، واسر بعضهم، وتداول فيهم الربا والخمر
والميسر. انهم كانوا يثنون على المروة ويمجدون بالشجاعة، لكن مفهوم الشجاعة
لديهم كان عبارة عن قتل أكبر عدد ممكن وسفك الدماء أكثر فأكثر. وكذلك الغيرة
كانت لديهم بمعنى وأد البنات في القبور وهن أحياء. ويرون الوفاء ان ينصروا
عشيرتهم وحلفاءهم في كل شئ سواء كانوا على حق أم باطل. لا يسألون أخاهم حين يندبهم * في النائبات على ما قال
برهانا . |
هل
كانت للعرب حضارة قبل الإسلام ؟
|
لا شك أنه كانت هناك في جزيرة العرب بعض الحضارات، إلا أنها لم تكن في كل الجزيرة بل عدة نقاط منها، كحضارة قوم سبأ أصحاب سد مأرب في اليمن، فإنها حضارة لا تنكر، ففضلا عما ذكر عنها في التوراة الحاضرة وما نقل عن
" هرودوت " و " ارتميدور " المؤرخين اليونانيين قبل
الميلاد، نرى المؤرخ
الشهير المسعودي يقول في وصفها: " ذكر أصحاب التأريخ القديم: أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها، وأكثرها جنانا
وغيطانا وأفسحها مروجا، مع بنيان حسن وشجر مصفوف، ومساكب للماء متكاثفة وأنهار
متفرقة. وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحالة، وفي العرض مثل
ذلك، وإن الراكب والمار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها
لا تواجهه الشمس ولا تعارضه لاستتار الأرض بالعمارة الشجرية. واستيلائها عليها
وإحاطتها بها. وكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه، وأهنأ حال وأرغد قرى، وفي نهاية
الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة ونهاية
المملكة، وكانت بلادهم في الأرض مثلا، وكانوا على طريقة حسنة من اتباع شريف
الأخلاق، وطلب الأفضال بحسب الإمكان وما توجبه القدرة من الحال، فمكثوا على ذلك
ما شاء الله من الأعصار، لا يعاندهم ملك إلا قصموه، ولا يوافيهم جبار في جيش إلا
كسروه، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد، فصاروا تاج الأرض " (مروج
الذهب 2: 181.). إلا
أن وجود هذه المستندات لا تدلنا على حضارة تسود كل أقطار الجزيرة العربية، ولا سيما منطقة الحجاز التي لم تكن تتمتع بهذه الحضارة بل لم تشم
شيئا من نسيمها، وهذا هو الذي جعلها مصونة عن تصرف المتصرفين بالبلاد، فلم يتوجه
إليها نهم الروم والفرس اللذين كانا يقتسمان العالم آنذاك. والمقطوع به هو أنه لم يبق من هذه الحضارة حين ظهور الإسلام شئ
يذكر. |
قصة
أسعد بن زرارة الخزرجي مع رسول الله
|
ونحن هنا نأتي بذكر قصة أسعد بن زرارة الخزرجي، التي تبين لنا نقاطا كثيرة من حياة الناس في الحجاز: روى الشيخ الطبرسي في كتابه " إعلام الورى بأعلام الهدى
" عن علي بن إبراهيم أنه قال: " كان بين الأوس
والخزرج حرب قد بغوا فيها دهورا طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا
بالنهار، وكان آخر حرب بينهم
يوم بغاث وكانت للأوس على
الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس،
وكان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنه كان بيننا
وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرغ معه لشئ ! قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ قال عتبة: خرج فينا رجل يدعي أنه رسول الله، سفه أحلامنا وسب
آلهتنا وأفسد شبابنا وفرق جماعتنا. فقال له أسعد: من هو منكم ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد
المطلب من أوسطنا شرفا وأعظمنا بيتا. وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين
كانوا بينهم - النظير وقريظة وقينقاع -: إن هذا
أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة، لنقتلنكم به يا معشر العرب. فلما سمع أسعد ما سمع من
عتبة وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود، وقال: فأين هو ؟ وكان هذا في وقت
محاصرة بني هاشم في الشعب فقال عتبة: إنهم
لا يخرجون من شعبهم إلا في الموسم، وها هو جالس في الحجر، فلا تسمع منه ولا
تكلمه فإنه ساحر يسحرك بكلامه. فقال أسعد: فكيف أصنع
وأنا معتمر لا بد لي أن أطوف بالبيت ؟ فقال: ضع في اذنيك
القطن. فحشا أسعد في اذنيه القطن ودخل المسجد ورسول الله جالس في الحجر مع قوم
من بني هاشم، فطاف أسعد بالبيت ونظر إلى رسول الله نظرة وجازه، فلما كان في الشوط
الثاني قال في نفسه: ما
أجد أجهل مني ! أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا نعرفه حتى أرجع إلى قومي فاخبرهم
؟ ! فأخذ القطن من اذنيه ورمى به وقال لرسول الله: أنعم صباحا ! فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد ابدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام
عليكم. فقال اسعد: إن
عهدك بهذا لقريب ! إلام تدعو ؟ يا محمد ! قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأدعوكم * (أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم
من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم
به لعلكم تذكرون) * (الانعام: 151، 152.). فلما سمع أسعد هذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله. كانت هاتان الآيتان من
سورة الأنعام تتضمنان الداء والدواء لامة متحاربة جاهلة، ولذلك خلفت أثرا عميقا
في قلب أسعد وذكوان الخزرجيين فأسلما فورا " ثم قالا: يا رسول الله ! ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن ويدعو الناس
إلى أمرك. فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير بالخروج معهما،
فخرج هو معهما إلى المدينة حتى قدموا على قومهم " (إعلام الورى:
56، طبعة النجف.). إن النظر في مفاد هاتين
الآيتين يغنينا عن أي بحث آخر عن أوضاع العرب قبل الإسلام، فإن هاتين الآيتين تبينان ما كان يسود حياة العرب في الجاهلية من
الأمراض الخلقية المزمنة، وإن مضمون هاتين الآيتين شاهد على ابتلاء العرب بجميع
هذه الأوصاف الرذيلة، ولهذا تلاهما رسول الله على أسعد في أول لقائه به وبذلك
عرفه برسالته. |
الدين
في جزيرة العرب:
|
إن آيات القرآن الكريم تشير إلى أرباب العرب وآلهتهم ورموزها من
أصنامهم وأوثانهم، والقرآن *
(أحسن القصص) * وفيه
الكفاية: قال عز وجل: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل
الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على
آلهتكم إن هذا لشئ يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) * (ص: 4 - 7.). وإذا كانت إيران
قد اتخذت الزرادشتية
(المجوسية) دينا رسميا لها طلبا للإستقلال العقائدي عن الروم المسيحية (الإسلام
وإيران 2: 32.)،
وهما في حرب دؤوب، فطبيعي أن تحاول إيران نشر عقيدتها الثنوية بالإلهين: إله
الخير وإله الشر بين الشعوب المغلوبة المستعمرة لها من حولها، فتتفشى المجوسية
في بعض القبائل العربية من تميم والبحرين وعمان واليمن (تأريخ
العرب قبل الإسلام 6: 284 فما بعد.) ونحن
نعلم أن المجوس ثنويون يؤمنون
بإلهين يدبران العالم
فللخير يزدان وللشر اهريمن ولهما رمزان فليزدان الخير النور، ولاهريمن الشر
الظلمة. أما أكثر العرب في
الجاهلية فكانوا وثنيين يؤمنون بقوى الهية كثيرة منبثة في مظاهر الطبيعة، وبقوى
خفية كثيرة في بعض الحيوانات والنباتات وحتى الجمادات، فكانوا يتعبدون لأصنام وحتى أوثان كثيرة اتخذوها رمزا لتلك الآلهة
ومنها الكواكب والنجوم. فكان عرب الجنوب في اليمن يرجعون بآلهتهم إلى ثالوث مقدس هو:
القمر، واسمه عند المعينيين
(أوائل الألف الأول قبل الميلاد) (العصر
الجاهلي: 25 لشوقي ضيف.) ود، وكان إلههم الاكبر، وهو الزوج الذكر، ولذلك لفظه مذكر. وتليه الشمس، وهي اللات، وفيها
تاء الإناث، ولذا اعتبروها زوجة القمر ولذلك لفظها مؤنث ! ومنها ولدت العزى أي
الزهرة أو عشتر، أو فينوس بالرومية، أو ناهيد بالفارسية. ولهم الهات اخرى رمز عن
بعض النجوم أو بعض مظاهر الطبيعة أو بعض الطيور، وكانوا قد بنوا عليها الهياكل
ويقدمون لها القرابين ويقوم عليها كهنة ذوو نفوذ كبير. وقوافل التجارة والهجرة
كانت متبادلة بينهم وبين عرب الشمال العدنانيين أو النزاريين الحجازيين فحملوا
دينهم معهم إليهم (انظر العصر الجاهلي: 29 لشوقي ضيف.). وأشار القرآن الكريم إلى عبادتهم للشمس في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد من طيور سليمان بن داود، إذ
تفقدها وكان الهدهد غائبا فلم يره * (فمكث غير بعيد) * إذ جاء، * (فقال
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم... وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * (النمل: 22 - 24.). ويضيف
القمر في آية اخرى تخاطب العرب المشركين: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * (فصلت: 37.). ومن قبل أضاف إليهما
الكوكب فيما حكاه عن خليله إبراهيم (عليه السلام) قال: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا
احب الآفلين) * ولعله كان عشتر (الزهرة)، ولعل الليلة كانت من أواخر الشهر القمري
إذ يظهر القمر متأخرا فبدأ بالكوكب ثم قال: * (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني
ربي لأكونن من القوم الضالين)
* فالليلة كانت من أوائل العشر الأخيرة من الشهر القمري إذ يظهر القمر متأخرا ثم
يأفل ولا يبقى حتى الصباح، ولما بزغت الشمس صباحا * (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) * ولعله بهذا يعترض على تقديمهم للقمر (الأصغر) على الشمس (الأكبر) * (فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون) * (الأنعام:
76 - 78.). ولعل شرك هؤلاء الصابئة البابليين هو منشأ شرك أهل اليمن ثم الحجاز (العصر
الجاهلي: 89 لشوقي ضيف.). أما الهدهد فطبيعي أنه إنما اهتدى إليهم نهارا فوجدهم يسجدون للشمس،
ولم يذكر القمر والزهرة ولم ينفهما. وقد أشار القرآن الكريم
إليها بأسمائها المعينية اليمنية لدى النزاريين الحجازيين مع خمسة آلهة اخرى
لهم، في آيتين من سورتين هما
قوله سبحانه: *
(أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى) * ثم
أشار إلى انوثتهما لديهم فقال: * (ألكم الذكر وله
الانثى) * (النجم: 19 - 21.). والآية الاخرى من سورة نوح وعن لسانه (عليه السلام) * (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا
خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث
ويعوق ونسرا) * ثم لم
يجعلها إناثا بل ذكرها في الضمير إليها فقال: * (وقد أضلوا كثيرا) * ثم حكى دعاء نوح عليهم قال: * (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) * (نوح: 21 - 24.). إذن فلغة (ود) رجعت إلى
أقدم من المعينيين باليمن (أوائل الألف الأول - ق م) وإلى أقدم من قوم إبراهيم ببابل العراق (أوائل الالف الثالث ق م)
إلى ما قبل الطوفان (أوائل الألف الرابع ق م) ومن حيث المكان قرب مكان إبراهيم
ببابل العراق في الكوفة (ففي روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: عمل نوح سفينته في
مسجد الكوفة... ثم التفت وأشار بيده إلى موضع وقال: وهنا نصبت أصنام قوم نوح:
يغوث ويعوق ونسر - الميزان 20 - 35. وعليه فلعل هذه الأسماء سريانية دخلت في
المعينية.) ولذلك نقل الطوسي في " التبيان " عن الضحاك وابن زيد وقتادة عن ابن عباس قال: هذه الاصنام المذكورة
كان يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب فيما بعد (التبيان
10: 141.). ونقله الطبرسي في "
مجمع البيان " وفي تفصيله نقل عن ابن عباس أيضا قال: نحت إبليس خمسة
أصنام وحمل الكفار فيما بين
آدم ونوح على عبادتها،
وهي: ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر. فلما
كان الطوفان دفن تلك الأصنام وطمها بالتراب فلم تزل مدفونة، حتى أخرجها الشيطان
لمشركي العرب: فاتخذت قضاعة ودا
فعبدوه بدومة الجندل، توارثوه حتى صار إلى كلب. وأخذ بطنان من طي
يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم
ففروا به إلى بني الحرث بن كعب، فجاء الإسلام وهو عندهم. وأما يعوق فكان
لكهلان (اليمن) ثم
توارثوه حتى صار إلى همدان
(اليمن) فجاء الإسلام وهو
فيهم. وأما نسر فكان لخثعم
(اليمن) يعبدونه. وسواع كان لآل
ذي الكلاع (الحميري اليمني) يعبدونه. وفي كيفية حمل إبليس
لاولئك الأوائل على عبادتها نقل عن محمد بن كعب القرظي قال: هذه أسماء قوم ممن
كان بين آدم ونوح صالحين، فلما
ماتوا ونشأ نسلهم بعدهم قال لهم إبليس: لو صورتم صورهم، ففعلوا وكانوا يقدسونها، فلما ماتوا ونشأ نسلهم
بعدهم قال لهم إبليس: إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها فكان ذلك مبدأ
عبادة الأوثان (مجمع البيان 10: 547. ونقله السيوطي عن ابن عباس أيضا في الدر
المنثور. وقد رواه الصدوق عن الصادق (عليه السلام) في علل الشرائع.). أما الآيات فقد أشارت إلى أن عبادتها كانت مكرا مكره أصحاب الأموال
والأولاد، ولعله لاستثمار الضعفاء منهم. ولعل في الفصل بين الآلهة وهذه الأصنام
في قوله: * (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا...) * إشارة إلى أنهم جعلوا هذه الأصنام رموزا للآلهة لا نفسها. ثم نقل الطبرسي عن قتادة قائمة بنسبة أكثر من هذه الأصنام الخمسة إلى قبائل العرب قال: إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب، فكان ود بدومة الجندل. وسواع برهاط لهذيل. وكان يغوث لمراد (اليمن)
وكان يعوق لهمدان (اليمن) وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير (اليمن) وكان اللات
لثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وجسم ونضر وسعد، وأما مناة فكانت لفديد، وأما
أساف ونائلة وهبل فلأهل مكة: كان اساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال
الركن اليماني وكان هبل في جوف الكعبة. ونقل عن الواقدي قال: كان ود على صورة
رجل، وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على
صورة نسر من الطير. ويقال إن اللات كانت صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتا، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه وكعبتها هي كعبة الطائف (الأصنام للكلبي: 16 والمحبر لابن حبيب: 315 ومعجم البلدان في اللات.) ولذلك
نرى في أسمائهم: وهب اللات وعبد شمس. وكانت مناة - الهة الموت
والآجال والأعمار والأقدار -
صخرة منصوبة على ساحل البحر بين مكة والمدينة في هذيل وخزاعة، وكان الأوس
والخزرج يحجون إلى مكة ويقفون مع الناس المواقف الثلاثة ولكنهم لا يحلقون
رؤوسهم، ولا يرون تمام حجتهم إلا أن ينصرفوا إلى مناة فيحلقوا رؤوسهم عندها (الأصنام
للكلبي: 14، والمحبر لابن حبيب: 316، ومعجم البلدان في مناة.). وكانت العزى شجرة بوادي نخلة شرقي مكة إلى الطائف لغطفان، حتى قطعها الإسلام (الأصنام
للكلبي: 17 ونقل الطبرسي عن مجاهد 9: 266 ومعجم البلدان في العزى.). ومن ثنويتهم في وثنيتهم ما تدل عليه معاني: يعوق ويغوث وسواع، ففي
الأخير ما يدل على أنه كان إله الهلاك والشر، وبإزائه يعوق أي يكون عائقا عنه،
ويغوث أي يغيث منه (العصر الجاهلي: 90 لشوقي ضيف.).
ولعلها في أصلها مقتبسة من ثنوية المجوسية، ولا سيما أنهم كانوا يقدمون قرابين
النيران، ويوقدونها لاستمطار السماء والاستسقاء، وعند عقد أيمانهم وأحلافهم (الحيوان
للجاحظ 4: 461 فما بعد.). وكان هبل من عقيق أحمر
على صورة إنسان، يده اليمنى من ذهب. والقداح أمامه، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه
فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج انتهوا إليه وعملوا به، ومنه، فعل عبد المطلب
لذبح ابنه عبد الله. ومنها للزواج، ومنها للمواليد، فإذا شكوا في مولود أهدوا
إليه هدية ثم ضربوا بسهام الأزلام (القداح) فإن خرج (الصريح) كان الوليد صريحا
في نسبه وأما إذا خرج (ملصق) دفعوه (الأصنام
للكلبي: 28. وسيأتي تفصيل الأزلام في الصفحة: 90.). ومن الأصنام المشهورة: ذو الخلصة، وهو صنم خثعم وبجيلة وأزد السراة، وكان صخرة بيضاء عند
منقوطة (مروة) منقوش عليها كهيئة التاج، وكان في تبالة وله بيت يحجون إليه (الأصنام
للكلبي والمحبر: 317) ولا يخفى أن تركيب اسم الصنم (ذو الخلصة) يمني وكعبتها هي الكعبة
اليمانية. وكان في حاضرة إمارة النبط (ق 3 م - ق 2 م) في " سلع "
كما جاء في التوراة: أو
" بطرا " كما هو اسمها لدى اليونان ولعله ترجمة يونانية لسلع العبرية
أو السريانية معبد كبير لصنمهم ذي الشري (الأصنام
للكلبي: 37 ومادة الشري في لسان العرب وتاج العروس.) إله
الخصب والخمر ! وقال الكلبي في كتابه " الأصنام ": واستهترت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من
اتخذ صنما، ومن لم يقدر على بناء البيت ولا اتخاذ الصنم اتخذ حجرا من الحرم أو
مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة
أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة الاخرى أثافي لقدره فإذا ارتحل
تركها. وكانوا يذبحون وينحرون عندها ويتقربون بذلك إليها (الأصنام
للكلبي: 33.). ومن تقديسهم لدماء
ذبائحهم القرابين لهياكل الأصنام والأوثان ينصبون لديها أحجارا هي النصب
والأنصاب، يصبون عليها دماء
ذبائحهم التي يتقربون بها إلى الهتهم، فالأنصاب والأزلام كانت من لوازم الأوثان
والأصنام في كلام الله تعالى: *
(والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * (المائدة: 90.). وكان لها سدنة وحجاب. وبجانب سدنة البيوت المقدسة كان هناك كهان يدعون أنه سخر لهم طائف
من الجن يسرق لهم السمع فيعرفون منهم ما كتب الله للناس في ألواحهم، رجالا
ونساء. فممن عرف من رجالهم: سطيح الذئبي، وسلمة الخزاعي، وسواد بن قارب الدوسي، وشق بن مصعب
الأغاري، وعزى سلمة، وعوف بن ربيعة الأسدي (ابن هشام
1: 16 والأغاني 9 و 15: 70 و 84 ويقال: قيل لسطيح: من أين لك هذا العلم ؟ قال:
من صاحبي من الجن كان استمع أخبار السماء حين كلم الله موسى في طور سيناء !). ومن الكاهنات: كاهنة
ذي الخلصة، والكاهنة السعدية، والكاهنة الشعثاء، والزرقاء بنت زهير وطريفة
الكاهنة امرأة عمرو بن عامر (مجمع الأمثال للميداني 1: 19 و 2: 54 وابن هشام 1: 16 في الهامش.) وكان
قد يلتحق ببعضها بغايا أيضا (المحبر: 184.)، ويسمون الذي يخبر الكاهن: الرئي. ولذلك فهم كانوا يؤمنون بالجن ويخافونها ويتعبدونها ويجعلون
بينها وبين الله نسبا، وإن
كانت هي مظاهر الشر عندهم، وكما كانوا يجعلون الملائكة بنات الله وهي مظاهر
الخير والرحمة: *
(وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم) * (الأنعام: 100.) ولعلها من ثنوية هؤلاء الوثنيين متسربة إليهم من ثنوية المجوس
أيضا. صحيح أن كثيرا من هؤلاء كانوا يعدون الجن والملك والأرواح
والأوثان والأصنام من شفعائهم عند الله كما حكى القرآن الكريم: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى
الله زلفى) *
(الزمر: 3.) لكنها لم تكن
للنجاة من النار بل * (اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) * (مريم: 81.)
و * (اتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون) * (يس: 74.). ذلك أنهم كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور: * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا
الدهر) * (الجاثية: 24.) و * (قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) * (الأنعام: 29.)
و * (ضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) * (يس: 78.)
فلم تكن قرباهم للنجاة
من النار. نعم كان حجهم الأعظم إلى الكعبة الإبراهيمية وقد بقي فيهم منه ومن حجه بعض السنن مزيجا بالبدع الجاهلية: منها
أشهر الحج المعلومات الحرم: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فكانت فرصة
لبعدائهم عن الأماكن المقدسة للوصول إليها دون أن تمس نذورهم، فكانوا فيها
يتجرون ويميرون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ. ويقول ابن حبيب في " المحبر ": كانوا يلبون، فكانت قريش تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا
شريك هو لك، تملكه وما ملك. تخاطب إساف. وكانت تلبيتهم لود: لبيك
اللهم لبيك، لبيك معذرة إليك. وكانت تلبيتهم للات: لبيك اللهم لبيك، كفى بيتنا بنيه، ليس بمهجور
ولا بليه، لكنه من تربة زكيه، أربابه من صالحي البريه. وكانت تلبيتهم للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحبنا إليك.
وكانت تلبيتهم لذي الخلصة: لبيك اللهم لبيك، لبيك بما هو أحب إليك (أخبار
مكة للأزرقي 1: 114.). فالحمس من قريش وكنانة
وخزاعة يطوفون بثيابهم، والحلة يطوفون عرايا. ويصور الأزرقي في كتابه " أخبار مكة " طواف العريان
فيقول: يبدأ بإساف
فيستلمه ثم يستلم الركن الأسود، ثم يجعل الكعبة عن يمينه ويطوف سبعا فإذا ختم
استلم الحطيم أو ركن الحجر الأسود ثم استلم نائلة فختم طوافه، ثم يخرج فيجد
ثيابه فيلبسها ويمضي (المصدر نفسه.). وقد فصل الكلبي المؤرخ
الشهير المتوفى في 206 ه ديانات العرب قبل الإسلام فقال: " إن حمير كانت تعبد
الشمس وكنانة كانت تعبد القمر وقيس كانت تعبد الشعرى، ولخم كانت تعبد المشتري،
وطئ كانت تعبد نجمة السهيل، وأسد كانت تعبد العطارد، وتميم كانت تعبد الدبران،
وبنو مليح كانوا يعبدون الجن، وأكثر العرب الأوثان والأصنام. وإن أول من جاء بها إلى مكة هو: عمرو بن لحي، وكانوا في أول
أمرهم يقولون: *
(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3.)
ثم رأوا فيهم قوة دون قدرة الله، فكانوا يتمسحون بها إذا أرادوا السفر، واتخذوا
من أحجار الصحراء أصناما يعبدونها كما يتخذون عددا آخر منها أثافي لقدورهم.
كانوا يرون أنهم بالقربان للأوثان يجلبون رضاها، فإذا قربوا لها قربانا تلطخوا
بدمائه، وكانوا يتقاسمون بالأزلام عندها، وهي سهام اصطلحوا على بعضها أنها أمر
وعلى بعضها الآخر أنها نهي، فيعملون كما تخرج لهم، وقد أصبحت الكعبة بيتا مركزيا
للأوثان أكثر من ثلاثمائة وستين، منها اللات والعزى ومناة، اللاتي كانت قريش
تزعم أنها بنات الله تعالى فتعبدها واللات بدورها ام سائر الآلهة وكان مقرها
بالطائف، وأما مناة فهي رب الأعمار والآجال، ومقرها بين مكة والمدينة " (الأصنام
للكلبي: 22.). |
أزلام
العرب:
|
قال تعالى: *
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن
تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق) * (المائدة: 3.). قال القمي في تفسيره
للنصب: إن قريشا كانوا
يعبدون الصخور فيذبحون لها. و " الأزلام " كانوا يعمدون إلى الجزور
فيجزئونه عشرة أجزاء، ثم يجتمعون عليه فيخرجون سهاما عشرة: سبعة لها أنصباء
وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء هي: الفذ والتوأم، والمسبل، والنافس،
والحلس، والرقيب، والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة
أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم،
والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا أنصباء لها هي: السفح، والمنيح، والوغد. وكان ثمن الجزور على من لم يخرج له من
الأنصباء شئ. وهذا قمار، حرمه الله عز وجل (تفسير
القمي 1: 161، 162 وعنه في مجمع البيان 3: 244 عن الصادقين (عليهما السلام).
وقال الطوسي في التبيان 3: 433: هي سهام كانت للجاهلية، مكتوب على بعضها: أمرني
ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي. فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتم به ضربوا تلك
القداح، فإن خرج الأمر مضى لحاجته، وإن خرج النهي لم يمض، وإن خرج ما ليس عليه
شئ اعادوها. فبين الله تعالى أن ذلك يحرم العمل به. ونقله في مجمع البيان عن
الحسن وجماعة من المفسرين: مجمع البيان 3: 244.). وقد عقد اليعقوبي في تأريخه فصلا خاصا بعنوان " أزلام العرب
" قال فيه:
" وكانت العرب تستقسم بالأزلام في كل امورها، وهي القداح، ولا يكون لها سفر
ولا مقام ولا معرفة حال إلا رجعت إلى القداح. وكانت القداح سبعة: فواحد عليه " الله عز وجل " والآخر " لكم "
والآخر " عليكم " والآخر " نعم " والآخر " منكم "
والآخر " من غيركم " والآخر " الوعد ". فكانوا إذا أرادوا أمرا
رجعوا إلى القداح فضربوا بها ثم عملوا بما تخرج القداح، لا يتعدونه ولا يجوزونه. وكان لهم امناء على القداح لا يثقون
بغيرهم. وكانت العرب إذا كان
الشتاء ونالهم القحط وقلت ألبان الإبل استعملوا الميسر بالأزلام، فضربوا بالقداح وتقامروا عليها إلا أن قداح الميسر عشرة: سبعة
منها لها أنصب، وثلاثة لا أنصب بها. فالسبعة التي لها أنصب يقال لأولها "
الفذ " وله جزء واحد، و " التوأم " وله جزءان، و " الرقيب
" وله ثلاثة أجزاء، و " الحلس " وله أربعة أجزاء، و "
النافس " وله خمسة أجزاء، والثلاثة التي لا أنصب لها يقال لها: المنيح
والسفيح والوغد. فكانت الجزور تشترى بما بلغت ولا ينقد الثمن، ثم يدعى الجزار فيقسمها عشرة أجزاء، فإذا قسمت أجزاؤها على السواء
أخذ الجزار الرأس والأرجل، ثم احضرت القداح العشرة، واجتمع فتيان الحي، فأخذ كل
فرقة على قدر حالهم ويسارهم وقدر احتمالهم، فيأخذ الأول الفذ والثاني التوأم
وكذلك سائر القداح على ما سمينا منها. فإذا عرف كل رجل منهم قدحه دفعوا القداح إلى رجل أخس لا ينظر
إليها معروف أنه لم يأكل لحما قط بثمن ويسمى " الحرضة " يؤتى " بالمجعول " وهو ثوب شديد البياض فيجعل على يده،
ويعمد إلى " السلفة " وهي قطعة من جراب فيعصب بها على كفه لئلا يجد مس
قدح يكون له في صاحبه هوى فيخرجه، ويأتي رجل فيجلس خلف الحرضة يسمى "
الرقيب " ثم يفيض الحرضة بالقداح فإذا نشز منها قدح استله " الحرضة
" فلم ينظر إليه حتى يدفعه إلى " الرقيب " فإن خرج من الثلاثة
الأغفال التي لا نصيب لها رد من ساعته، وإن خرج أولا " الفذ " أخذ
صاحبه نصيبه وضربوا بباقي القداح على التسعة الأجزاء الاخر، فإن خرج التوأم أخذ
صاحبه جزأين وضربوا بباقي الأقداح على الثمانية الأجزاء الاخر، فإن خرج المعلى
أخذ صاحبه نصيبه وهو السبعة الأجزاء التي بقيت. ووقع غرم ثمن الجزور على من
خاب سهمه وهم أربعة: صاحب
" الرقيب " و " الحلس " و " النافس " و "
المسبل " ولهذه الأقداح ثمانية عشر سهما فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءا
ويأخذ كل واحد من الغرم مثل الذي كان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه. وإن خرج " المعلى " أول القداح أخذ صاحبه سبعة أجزاء الجزور، وكان الغرم على أصحاب القداح التي
خابت، واحتاجوا أن ينحروا جزورا اخرى، لأن في قداحهم المسبل، وله ستة أجزاء ولم
يبق من اللحم إلا ثلاثة أجزاء. فإن نحروا الجزور الثانية، وضربوا عليها القداح
فخرج " المسبل " أخذ صاحبه ستة أجزاء الثلاثة الباقية من الجزور
الاولى وثلاثة أجزاء من الجزور الثانية، ولزمه الغرم في الجزور الاولى ولم يلزمه
في الثانية شئ لأن قدحه قد فاز. وبقي من الجزور الثانية سبعة أجزاء فيضرب عليها
بقداح من بقي، فإن خرج " النفاس " أخذ صاحبه خمسة أجزاء ولم يغرم من
ثمن الجزور الثانية شيئا، لأن قدحه قد فاز، ولزمه الغرم من الاولى وبقي جزءان من
اللحم، وفيما بقي من القداح " الحلس " له أربعة أجزاء، فيحتاجون أن
ينحروا جزورا اخرى لتتمة أربعة. وإن نحروا الجزور الثالثة وفاز " الحلس " أخذ صاحبه أربعة
أجزاء: جزأين من الجزور
الثانية وجزأين من الجزور الثالثة، ولم يغرم من الجزور الثالثة شيئا فإن قدحه قد
فاز ويبقى ثمانية أجزاء من الجزور الثالثة، فيضرب بباقي القداح عليها حتى يخرج
قداحهم وفقا لأجزاء الجزور، فهذا حساب غرمهم الثمن. وربما كانت أجزاء اللحم
موافقة لأجزاء القداح فلا يحتاجون إلى نحر شئ، وإنما تنحر الجزور إذا قصرت أجزاء
اللحم عن بعض القداح، فإن عاد بعض من فاز قدحه ثانية فخاب، غرم من ثمن الجزور
التي خاب قدحه منها على هذا الحساب. فإن فضل من أجزاء اللحم شئ وقد خرجت القداح
كلها، كانت تلك الأجزاء لأهل المسكنة من العشيرة، فهذا تفسير " الميسر
". وكانوا يفتخرون به ويرون أنه من فعال الكرم والشرف، ولهم في هذا أشعار
كثيرة يفتخرون بها (اليعقوبي 1: 259 - 261، طبعة بيروت.). |
اليهود
في يثرب والنصارى في نجران والشام:
|
اليهود في يثرب والنصارى في نجران والشام: استولى القيصر الرومي تيتوس على الشام وفلسطين والقدس فهدم هيكل
اليهود سنة 70 م، ثم اضطهدهم القيصر هدريان سنة 132 م، ففر في هذه الأثناء كثير
منهم إلى الحجاز وغير قليل منهم إلى اليمن، أي في أواخر القرن الأول وأوائل
القرن الثاني الميلادي. ويظن أن القياصرة الرومان في صراعهم على السلطة أرادوا النفوذ إلى اليمن لبسط سلطانهم على
هذه البلاد بما لها من قوافل تجارية، فكان ذلك من أهم الأسباب لنفوذ النصرانية
هناك بالبعثات التبشيرية المسيحية التي كان يشجعها القياصرة، ويظن أن انتشارها
في اليمن بدأ منذ القرن الرابع الميلادي، ولا نصل إلى العصر الجاهلي (الخامس)
حتى نرى النصرانية منتشرة في نجران وغيرها، ونجران كانت أهم مواطنها. ويرى نسابة العرب أن الغساسنة في الشام من أصل يمني، فهم من عرب
الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال معها قبائل كثيرة اخرى منها جذام وعاملة وقضاعة
وكلب. ويقال إنهم اصطدموا
هناك بعرب من الضجاعمة فتغلبوا عليهم وسادوا هناك، ويزعم مؤرخو العرب أن مؤسس
سلالتهم جفنة بن عمرو فهم آل جفنة، فأقاموا إمارتهم في شرقي الاردن، وكأنهم ظلوا
بدوا يرحلون بخيامهم وإبلهم وأنعامهم من مكان إلى مكان في الجابية وجلولاء والجولان
وحتى جلق قرب دمشق، وقربهم الرومان البيزنطيون ومنحوهم ألقابهم واتخذوهم حاجزا
بينهم وبين البدو وغاراتهم، ومساعدا لهم في حروبهم ضد من يؤيد الفرس من عرب
مناذرة الحيرة في العراق. وليس بأيدينا من الوثائق
التأريخية ما تبين بدقة تأريخ نشأة هذه
الإمارة، إلا أنها ظهرت على صفحة التأريخ إثر قضاء
الرومان على مملكة تدمر فدمروها سنة 273 م، ولكن تأريخها قبل أواخر القرن الخامس
الهجري يحيط به الإبهام والغموض، وأول ملك يمكن الاطمئنان إلى أخباره من الوجهة
التأريخية هو جبلة الذي غزا فلسطين سنة 497 م. وانتشرت النصرانية بين عرب
الشام من الغساسنة وعاملة وقضاعة وكلب وجذام، وكانوا على مذهب المنوفستيين أو
اليعاقبة المنسوبين إلى يعقوب البرادعي حوالي الخمسمائة الميلادية، الذي كان يرى
للمسيح إقنوما واحدا أي طبيعة بشرية واحدة غير إلهية. وبكر بن وائل كانوا في ديار بكر فيما بين الشام إلى العراق ويليهم
إلى شمال العراق إياد وتغلب، فنفذت النصرانية اليعقوبية فيهم أيضا، بل وتغلغلت
في الحيرة قرب الكوفة فسموا العباديين نسبة إلى عبادة الله، ولكنهم غير يعاقبة بل نساطرة نسبة إلى نسطوريوس المتوفى سنة 450 م
الذي كان يرى أن للمسيح إقنومين أي طبيعتين: اللاهوت مع الناسوت، وحتى دخل في
النصرانية أواخرهم: النعمان بن المنذر واخته هند بنت المنذر وبنت ديرا. وكان في مكة جوار روميات (اسد
الغابة 1: 387.) وعبدان نصرانيان من عين تمر بالعراق (أسباب
النزول للواحدي: 213 - 220.) ورقيق حبشي نصراني كثير، وفي الطائف عداس النصراني من نينوى في
شمال العراق، وتنصر في مكة قوم قبيل الإسلام منهم عتبة بن أبي لهب، وعثمان بن
الحويرث وورقة بن نوفل (تأريخ اليعقوبي 1: 257، طبعة بيروت.). وفي أواخر القرن السادس الميلادي استطاع يهود اليمن أن يؤثروا في ذي
نؤاس ملك اليمن، وربما
كان السبب الحقيقي لاستجابته لليهود أنهم خوفوه من تغلغل النصرانية في بلاده
وبذلك تفتح أبواب اليمن لنصارى الحبشة من دون مقاومة، فأدخلوه في دينهم، ثم انتقموا به من النصارى فدفعوه إلى التنكيل بنصارى نجران وتحريقهم
بالنار في ما حفروه لهم من حفر الاخدود في الأرض، وإذ كانت النصرانية يومئذ أحق من اليهودية قال الله تعالى: * (قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود، وهم
على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز
الحميد) * (البروج: 4 - 8.) وانتقم
نصارى الحبشة لإخوانهم فأزالوا دولة ذي نؤاس سنة 525 م بقيادة أبرهة، وظلوا هناك خمسين عاما. فدعمت النصرانية واعتنقها كثيرون وبنيت لها كنائس في أكثر من بلد
من أشهرها كنيسة نجران أنشأها أبرهة كما أنشأ كنائس كثيرة في مدن اليمن، واهتم
بزينتها وزخرفتها. ومن أشهرها القليس في صنعاء، والكلمة تعريب لكلمة الكليسة اليونانية، فيقال: إنه نقشها بالذهب والفضة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف
الجواهر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب،
ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة ومنابر من الأبنوس والعاج (تفسير الطبري 3: 193.) وقد
حولها المسلمون إلى مسجد لا يزال اليوم قائما (العصر
الجاهلي لشوقي ضيف: 97 - 100.).
وكانت هذه الفترة سببا في خروج اليهود من اليمن وتفرقهم في البلاد، وبقي منهم جماعة حتى دخل الإسلام فدخلوا فيه، منهم كعب الأحبار
ووهب بن منبه. وأهم من يهود اليمن يهود الحجاز، وكانوا قبائل وجماعات كثيرة انتشرت في واحات الحجاز: يثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء، وكان في يثرب منهم عشائر كثيرة أهمها: بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع وبنو تهدل، وقد نزل بينهم
الأوس والخزرج وثنيين. |
من
سنن الجاهلية في الابل والغنم:
|
من سنن الجاهلية في الابل والغنم: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي... وقد جاء في القرآن الكريم
عنها: * (ما جعل الله من
بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب
واكثرهم لا يعقلون) * (المائدة:
103.). وروى العياشي في تفسيره
لها عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن قالوا: وصلت،
فلا يستحلون ذبحها ولا اكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة فلا يستحلون اكلها
ولا ظهرها. والحامي: فحل الابل، لم يكونوا يستحلون (اكله) فأنزل الله أنه لم يحرم شيئا
من هذا (تفسير العياشي 1: 347.). ونقل الشيخ الطوسي في
" التبيان " عن محمد بن اسحاق قال: الوصيلة: هي الشاة إذا ولدت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن، كل بطن توأم
اناث ليس فيها ذكر، قالوا: قد وصلت، وجعلوها وصيلة، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور
دون الاناث ! والسائبة: هي الناقة إذا تابعت بين عشر اناث ليس فيهن ذكر، سيبت
فلم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. والبحيرة: هي ما نتجت
السائبة بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم خلي سبيلها مع امها، فلم يركب ظهرها ولم
يجز وبرها، ولم يشرب لبنها الاضيف (التبيان
4: 38 وعن ابن اسحاق في السيرة 1: 91.). ونقل عن أهل اللغة
قالوا: الوصيلة: هي
الشاة كانت إذا ولدت انثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم، وإذا
ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوه لآلهتهم. وفي البحيرة: قال:
كانوا في الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا، بحروا اذنها أي
شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولم تطرد عن رعي ولاماء. وفي السائبة: قال:
كانوا في الجاهلية إذا نذر أحدهم لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك
قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في التخلية (التبيان 4: 38.).
وأسند الطبرسي في " مجمع البيان " قول أهل اللغة هذا
الى الزجاج. وفي الحامي قال: هو
الذكر من الابل، كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قدحمى
ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى، رواه عن الزجاج وأبي عبيدة،
وابن مسعود وابن عباس. ثم نقل عن المفسرين عن
ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن
عمرو ابن لحي بن قمعة بن خندف، كان قد ملك مكة، وكان
هو أول من غير دين اسماعيل واتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، فلقد
رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه (مجمع
البيان 3: 390. ورواه ابن اسحاق بسنده عن ابن حزم وبسند آخر عن أبي هريرة -
السيرة 1: 78، 79.). |
حماس
العرب قبل الاسلام:
|
بإمكاننا ان نقول:
إن العربي قبل الإسلام كان نموذجا تاما لشره البشر وحرصه على مصالحه ومنافعه،
فكان ينظر إلى كل شئ من زاوية منافعه الخاصة، وكان يدعي لنفسه في كل ذلك أنواعا
من الشرف والكرامة والرفعة على الآخرين، يحب الحرية غاية الحب، وينفر من أي قيد
أو حد. وقد قال ابن خلدون بهذا الصدد: " إن العرب إذا تغلبوا على (تحف
العقول: 30 ط بيروت.) أوطان أسرع إليها الخراب، وذلك أنهم امة قد استحكمت فيهم أسباب التوحش
فصار لهم خلقا وجبلة، وكان عندهم الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة
ملذوذا. وهذه الطبيعة منافية
للعمران ومناقضة له، فان
حالتهم العادية هي الرحلة والتغلب، وهذا مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له.
وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم
في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم الى مال أو متاع أو
ماعون انتهبوه " (مقدمة ابن خلدون: 149 ط دار الفكر.). أجل، إن العرب قبل الإسلام كانوا قد
اعتادوا على الحرب والقتال، وكان
منطقهم السائد: لا يغسل الدم الا الدم، وكذلك كانوا قد
اعتادوا الإغارة على أموال الآخرين حتى أن أحدهم كان يعد غاراته على أموال الناس مفخرة له، وحتى
أن الشاعر الجاهلي حينما يشاهد عجز قومه عن الغارة يتمنى ان لو كان له عن قومه
هؤلاء قوم آخرون يشنون الغارات: فليت لي بهم قوما إذا ركبوا *
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا والى هذه الحالة يشير الذكر الحكيم إذا يقول لهم: * (وكنتم
على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) * (آل عمران: 103.). |
الخرافات
عند العرب:
|
إن القرآن الكريم يبين أن من أهداف بعثة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) أنه (يضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الاعراف: 157.). فما هو الإصر وماهي الأغلال التي كانت عليهم ؟ لا شك أنها لم تكن
أغلالا من حديد، بل الغرض منها هي تلك الأوهام والخرافات التي كانت تمنع عقولهم
وافكارهم عن الرشد والنمو، ولا شك أنها لا تقل عن أغلال الحديد ثقلا وضررا، إذ
هذه الأغلال قد لا تنفك عن صاحبها حتى الموت وهي تمنعه عن كل حركة حتى لحلها، في
حين لو كان الإنسان ذا عقل حر سليم كان بإمكانه ان يكسر كل طوق أو قيد. إن من مفاخر رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) أنه كافح الخرافات والأوهام، وغسل العقل البشري منها. إن ساسة العالم
الذين لا يهمهم شئ سوى الرئاسة على الناس، يحاولون الإفادة من كل شئ في سبيل
أغراضهم ومقاصدهم، فإذا كانت العقائد الخرافية والقصص القديمة مما يمكن ان تؤيد
حكومتهم ورئاستهم، فلا مانع لهم من أن يروجوا لها ويفتحوا السبيل أمامها، وحتى
لو كانوا اناسا مفكرين ذوي رأي ومنطق فإنهم سوف يدافعون عن هذه الخرافات باسم
احترام آراء الناس وأفكارهم واعتقاداتهم. اما رسول الله فانه
لم يمنع عن تلك العقائد الخرافية التي تضر بالمجتمع فحسب، بل كان يكافح حتى
الأفكار التي كانت قد تؤيده وتدعم هدفه، وكان يسعى الى ان يكون الناس أبناء
الدليل والمنطق لا القصص والخرافات. فقد روى البرقي في كتابه " المحاسن " بسنده عن أبي الحسن
موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: لما قبض ابراهيم ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جرت
في موته ثلاث سنن: أما واحدة: فانه لما قبض
انكسفت الشمس فقال الناس: انما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله، فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: " ايها الناس ! إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد
ولا لحياته. فإذا انكسفا أو أحدهما صلوا ". ثم نزل من المنبر فصلى
بالناس الكسوف (المحاسن للبرقي: 313.). إن فكرة كسوف الشمس لموت ابن رسول الله كان مما يرسخ العقيدة برسول الله في نفوس الناس، وهو من ثم يؤدي
الى انتشار رسالته ولكنه (صلى
الله عليه وآله) لم يرض أن يتأيد بالخرافة. إن كفاح رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ضد الخرافات وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان واتخاذ بعض
المخلوقات أربابا لم يكن دأبه في رسالته فحسب بل إنه كان يكافح الأوهام والخرافات حتى في دور طفولته وصباه. فقد روى المحدث المجلسي
في موسوعته " بحار الأنوار " عن كتاب " المنتقى في أحوال المصطفى
" للكازروني من العامة، بسنده عن ابن عباس عن حليمة السعدية أنها قالت " فلما تم له ثلاث سنين قال لي يوما: يا اماه ! مالي لا أرى
أخوي بالنهار ؟ قلت له: يا بني انهما يرعيان غنيمات، قال: فمالي لا أخرج معهما ؟ قلت له:
تحب ذلك ؟ قال: نعم. فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية فنزعها ثم قال لي: مهلا يا اماه ! فإن معي من يحفظني " (بحار
الانوار 15: 392.). |
الخرافات
في عقائد العرب الجاهليين:
|
إن عقائد جميع امم العالم كانت حين طلوع فجر الإسلام خليطا بأنواع من الخرافات والأساطير، فالأساطير الساسانية واليونانية كانت تسود على أفكار امم كانت تعد من أرقي أمم العالم يومذاك.
وحتى اليوم يوجد بين امم العالم خرافات كثيرة لا تستطيع الحضارة الحاضرة أن
تنفيها من حياة الناس. وقد سجل التأريخ خرافات وأساطير كثيرة للناس في شبه جزيرة العرب، جمع
كثيرا منها السيد محمود الآلوسي في كتاب أسماه " بلوغ الأرب في معرفة أحوال
العرب " مع ذكر
شواهد لها من الشعر الجاهلي وغيره، بمراجعة هذا الكتاب ومثله يواجه المرء شيئا كثيرا من الخرافات قد
ملأت عقول العرب الجاهليين، وكانت
هذه الأساطير احدى عوامل التخلف فيهم عن سائر امم العالم آنذاك، وكانت كذلك أكبر
سد أمام تقدم الإسلام فيهم أيضا، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يسعى جاهدا أن يحبط تلك الأساطير والأوهام من آثار الجاهلية،
فحينما أرسل " معاذ بن جبل " الى اليمن أمرة قائلا: " وأمت
الجاهلية الا ماسنه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كله صغيره وكبيره " (تحف
العقول: 25.). |
وهنا
نأتي نحن بنماذج من خرافاتهم:
|
أ - إشعال النار للاستسقاء: كانت الجزيرة العربية تواجه الجفاف في أكثر فصول السنة، فكان
الناس يجمعون حطبا من شجر القشر والسلع فيربطونها بذيل الثور ثم يسوقونه الى سفح
الجبل فيضرمون النار في حزمة الحطب فتشتعل، ويبدأ الثور يركض ويخور وهم يرون ذلك
تقليدا للبرق والرعد، فالبرق النار في الحطب والرعد خوار الثور والبقر، ويرون
ذلك مفيدا لهطول الأمطار ! ب - يضربون الثور لتشرب
البقرة: كانوا يردون بقطيع
البقر الماء وقد يشرب الثور ولا تشرب الأبقار، فيرون ذلك من وجود الجن في قرون
الثور فيضربون الثور لتشرب البقر ! ويقول شاعرهم في ذلك: فإني إذا كالثور يضرب
جنبه * إذا لم يعف شربا وعافت صواحبه ! ج - يكوون الجمل السالم لتصح الإبل: كانوا إذا مرضت الإبل وظهر في فمها أو على أطرافها قروح أو بثور،
يأتون ببعير سالم فيكوون شفاهه وساعديه وذراعيه، لتصح سائر الإبل كما يتوهمون
حسب خرافاتهم. وقد يحتمل بعض المتأخرين من المؤرخين أن ذلك كان عملا وقائيا بل
علاجا علميا ! لكننا حينما نرى أنهم يفعلون ذلك بواحد من الإبل بدلا من الكل،
نعلم أن ذلك لم يكن الا خرافة ووهما. د - يحبسون بعيرا على القبر ليحشر الميت عليه: كانوا إذا مات كبير
منهم حفروا قرب قبره حفيرة وحبسوا بها بعيرا وتركوه يموت جوعا وعطشا، يزعمون ان
الميت يركبه ولا يبقى راجلا بلا راحلة !. ه - يعقرون بعيرا عند قبر الميت: كانوا إذا مات كريم منهم كان ينحر الإبل لاضيافه، يعقر أقرباؤه
بعيرا عند قبره تكريما للميت وثناء عليه ! وحارب الإسلام كل هذه الأوهام، بل
انها انما كانت ظلما للحيوان، وإذا ماقارناها نحن بأحكام الإسلام بشأن حماية
الحيوان رأينا أن الإسلام كان ثورة على هذه الأفكار السائدة في ذلك المحيط
الجاهل. ويكفينا من بين عشرات الأحكام أن الإسلام قرر للحيوان حقوقا على صاحبه (انظر
بهذا الصدد كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 286 - 292.). و - علاج المرضى: كانوا يرون أن الملدوغ والملسوع لو كان معه شئ من النحاس مات،
وكانوا يعالجونها بإناطة عقود وقلائد الذهب والفضة برقبتهما وكانوا يعالجون عضة
الكلب المكلوب (داء الكلب) بدم كبير القبيلة أو شيخ العشيرة يضعونه على موضع
الجراح ! وقد جاء هذا المعنى
في هذا البيت المعروف: أحلامكم لسقام الجهل
شافية * كما دماؤكم تشفي من الكلب وكانوا إذا ظهرت على أحد منهم سمات مس الجنون لجؤوا لطرد الأرواح الشريرة منه الى عظام الموتى والأقمشة الملوثة
بالأوساخ والقاذورات فعلقوها برقبته. ولدفع الجنون عن
الجنين والبنين كانوا يعلقون سن السنور والثعلب بخيط فيعلقونها برقابهم. وكانت الام إذا رأت في فم أو شفاه أولادها بثورا حملت على رأسها طبقا
وطافت على دور
القبيلة فجمعت شيئا من الخبز والتمر وأطعمتها الكلاب ليطيب بنوها. وكان نساء
الحي يراقبن أبناءهن كيلا يأكلوا شيئا من ذلك الخبز والتمر فيصابوا بذلك الداء. وإذا استمر مرض أحدهم قالوا انه قتل حية أو غيرها من الجن، وللاعتذار من الجن كانوا
يصنعون بعيرا من الطين يحملونه التمر والحنطة والشعير ويتركونه ببعض شعاب
الجبال، فإذا رأوا الحمل بعد ذلك قد تغير شئ منه قالوا ان الهدية قبلت وسيطيب
المريض، وإلا قالوا: إنهم استقلوا الهدية فلم يقبلوا بها !. وكانوا إذا دخلوا قرية وخافوا الجن أو الطاعون صاحوا في مدخل القرية عشر مرات بصوت الحمير (النهيق) وقد يعلقون
برقابهم عظم الثعلب ! وكانوا إذا ضلوا في البيداء نزعوا ملابسهم فلبسوها
بالمقلوب كي ينقلبوا الى أهلهم ! وكانوا عند السفر يربطون خيطا بغصن شجرة أو
فرعها، فإذا رجعوا ووجدوه كما هو اطمأنوا الى وفاء أزواجهم وعدم خيانتهن لهم،
أما إذا فقدوه أو وجدوه قد حل اتهموا أزواجهم بخيانتهم من ورائهم. وكانوا إذا
سقط سن من أسنان أطفالهم رموا به الى جهة الشمس وقالوا: أيتها الشمس اعطينا سنا
أحسن من هذا ! وكانت المرأة التي لا يبقى لها أولادها تطأ القتيل سبع مرات ويرون
أن ذلك نافع لها ليبقى لها ولدها بعد هذا. هذه نماذج من الخرافات التي كانت قد خيمت على محيط حياة العرب في
عهد الجاهلية فجعلت منه عهدا مظلما أسود ومنعت عقولهم من الرقي والنمو. |
المرأة
في المجتمع الجاهلي:
|
كانت المرأة لديهم كسلعة تباع وتشترى، تماما كالحيوانات، ولا
يورثونها، ويرثونها مع التركة، ولا حد لتزويج الرجال منهن، ويعظلوهن ليذهبوا
ببعض ما آتوهن - كما في القرآن الكريم - ويتزوجون بزوجات آبائهم، ويمنعون
أزواجهم إذا طلقوهن ان يتزوجن بغيرهم الا بإذنهن، ولا يكون ذلك الا بمال. اما الإسلام فيكفينا منه تغييرا
لهذا الوضع واصلاحا له قول رسول الله (صلى الله عليه
وآله) في خطبته في حجة الوداع: " أيها
الناس: ان لنسائكم عليكم حقا ولكم عليهن حقا، فحقكم عليهن ان لا يوطئن أحدا
فرشكم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم الا بإذنكم، وان لا يأتين بفاحشة، فإن
الله قد أذن لكم ان تعظلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإذا
انتهين واطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم
فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا " (تحف
العقول: 30 ط بيروت). |
مبدأ
العرب، والعرب العاربة:
|
إن ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام مزيج بالأساطير، وقد ظل تأريخهم
تأريخا مبهما حتى أواسط القرن الماضي حيث جد علماء الآثار والحفريات الأثرية
التاريخية من الغربيين في قراءة آثارهم المنقوشة بالخط المسند على الأبراج
والهياكل والنصب والأحجار، فاستقر
رأي هؤلاء الباحثين الغربيين على أن العرب الجنوبيين في اليمن هم من الموجة
السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر الألف الثاني ق م، أي في حدود الألف قبل
الميلاد، أي قرابة خمسة عشر قرنا قبل الاسلام، اتجهت من شمال الجزيرة الى جنوبها، لامن بابل العراق (العصر
الجاهلي، لشوقي ضيف: 25 - 28.)
بينما نرى في التاريخ النقلي المتوارث أن الهجرة كانت من بابل الى اليمن، فمثلا: ذكر المسعودي في أوائل من تكلموا بالعربية عن نسل نوح ببابل العراق
بعد الطوفان قال: وكان من تكلم بالعربية: يعرب وجرهم، وعاد، وثمود، وعملاق، وطسم، وجديس، ووبار، وعبيل وعبد
ضخم، فسار يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح (اي الجيل
الخامس بعد نوح) بمن تبعه من ولده.. فحل باليمن. وسار بعده عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه، فحل بالأحقاف
وأداني الرمل بين عمان وحضرموت واليمن وتفرق هؤلاء في الأرض فانتشر منهم ناس كثير: منهم جيرون بن سعد بن عاد حل بدمشق فمصر مصرها، وجمع عمد الرخام
والمرمر إليها وشيد بنيانها وسماها " ارم ذات العماد ". قال المسعودي: وهذا
الموضع بدمشق في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - سوق من أسواقها
عند باب المسجد الجامع يعرف
بجيرون، وهو بنيان عظيم
كان قصر هذا الملك (جيرون) عليه أبواب من نحاس عجيبة، بعضها على ما كانت عليه،
وبعضها من مسجد الجامع. وسار بعد
عاد بن عوص: ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه، فنزلوا الحجر الى فرع، نحو وادي القرى بين الشام والحجاز ونبيهم صالح (عليه السلام). وسار بعد ثمود:
جديس بن عابر بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه، وهؤلاء نزلوا اليمامة. وسار بعد جديس: عملاق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه فنزل هؤلاء
أكناف الحرم والتهائم، ثم انضافوا الى ملوك الروم فملكتهم الروم على مشارف الشام
والغرب والجزيرة من ثغور الشام فيما بينهم وبين فارس، منهم السميدع بن هوبر،
ومنهم اذينة بن السميدع. ثم سار طسم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح بعد عملاق بن لاوذ بولده
ومن تبعه، فكان منزلهم
باليمامة، واسمها إذ ذاك جر، وكانت أفضل البلاد وأكثرها خيرا فيها صنوف الشجر
والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة، وكثرت طسم فملكت عليها عملوق بن جديس. فكان عملوق يحكم
طسم وجديس، ولكن كثرت جديس فملكت عليها الأسود بن غفار. وكان عملوق ظلوما غشوما
لاينهاه شئ عن هواه، وكان قد قهر على جديس وتعدى عليهم. وترافع إليه زوجان من
جديس تنازعا في ولدهما عمن يكون بعد الطلاق فحكم الملك أن يؤخذ الولد منهما
ويجعل في غلمانه، فقالت فيه شعرا ذمته به وبلغ قولها الملك فغضب، وأمر أن لا
تتزوج امرأة من جديس فتزف الى زوجها حتى تحمل إليه فيفترعها قبل زوجها، فلقوا من
ذلك ذلا طويلا، ولم تزل تلك حالتهم حتى تزوجت اخت الأسود ملك جديس ففعل بها
كسائر نسائها، فخرجت تقول شعرا تحرض به قومها جديس على طسم. فصنع الأسود طعاما
كثيرا ودعا إليه عملوق ومن معه من رؤساء طسم باليمامة فأجابوه، فوثبت جديس عليهم
بأسيافهم فقتلوهم عن آخرهم ومضوا الى ديارهم فانتهبوها. قال المسعودي: وسار بعد طسم بن لاوذ: وبار بن اميم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، بولده ومن تبعه من
قومه، فنزل برمل عالج، وأصابهم نقمة من الله فهلكوا لبغيهم في الأرض. وسار بعد وبار بن اميم:
عبد ضخم بن ارم بن سام بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا الطائف، ثم هلك هؤلاء ببعض
غوائل الدهر فدثروا، ولهم ذكر في الشعر الجاهلي. وسار بعد عبد ضخم بن ارم:
جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه، وطافوا البلاد حتى أتوا مكة فنزلوها (بعرفات،
وبعد ظهور زمزم نزلوا حول البيت بمكة). وسار اميم بن لاوذ بن ارم
بعد جرهم بن قحطان فحل بأرض فارس، فالفرس من ولد كيومرث بن اميم بن لاوذ بن ارم
بن سام بن نوح على خلاف في ذلك. ونزل ولد كنعان بن حام بن
نوح بلاد الشام فبهم عرفت تلك الديار فقيل: بلاد كنعان. قال المسعودي: وقد
ذكر جماعة من أهل السير والأخبار: ان جميع من ذكرنا من هذه القبائل كانوا أهل
خيم وبدوا مجتمعين في مساكنهم من الأرض. وان اميما وأولاده (أي الفرس) هم أول من
ابتنى البنيان ورفع الحيطان وقطع الأشجار وسقف السقوف واتخذ السطوح. وقد كان من ذكرنا من الامم
لايجحد الصانع عزوجل، ويعلمون
أن نوحا (عليه السلام) كان نبيا. ثم دخلت عليهم بعد ذلك شبه ومالت نفوسهم الى ما تدعو إليه الطبائع
من الملاذ والتقليد، وكان في نفوسهم هيبة الصانع والتقرب إليه بالتماثيل
وعبادتها لظنهم أنها مقربة لهم إليه. وكان عبيل بن عوص بن ارم بن سام بن نوح نزل هو وولده ومن تبعه بلاد
الجحفة بين مكة والمدينة، فهلكوا بالسيل فسمي ذلك الموضع بالجحفة لإجحافها بهم. وكان يثرب بن قامة بن مهليل بن ارم بن عبيل نزل هو وولده ومن تبعه
المدينة فسميت به يثرب، وهؤلاء أيضا هلكوا ببعض غوائل الدهر وآفاته. وقد أخبر الله جلت قدرته عمن اهلك من قوم عاد وثمود فقال تعالى * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية وأما عاد
فاهلكوا بريح صرصر عاتية) * (الحاقة:
4 - 6.) ارسل الله على عاد الريح العقيم فخرجت عليهم من واد لهم (بصورة
سحاب مركوم) * (فلما
رأوه... قالوا هذا عارض ممطرنا) * وتباشروا بذلك، فلما سمع هو ذلك منهم قال لهم * (بل
هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم) * (الأحقاف: 24.). ولما دثرت هذه الامم من
العرب والقبائل خلت منهم الديار فسكنها غيرهم من الناس، فنزل قوم من بني حنيفة اليمامة واستوطنوها. وقد كانوا نزلوا
بلاد الجحفة بين مكة والمدينة.
واختلفوا في بني حضور فقيل إنهم من ولد يافث بن نوح، ومنهم من الحقهم بمن ذكرنا من
العرب البائدة ممن سمينا، وكانت امة عظيمة ذات بطش وشدة. ومنهم من رأى أن ديارهم
كانت بلاد جند قنسرين الى تل ماسح الى خناصرة الى بلاد سورية، وهذه المدن في هذا
الوقت مضافة الى أعمال حلب من بلاد قنسرين من أرض الشام. ومن الناس من رأى أنهم
كانوا بأرض السماوة وأنها كانت عمائر متصلة ذات جنان ومياه متدفقة، وذلك بين
العراق الى حد الحجاز والشام، وهي الآن براري وقفار وديار خراب. وقد كان الله بعث إليهم شعيب بن مهدم بن حضور بن عدي: نبيا ناهيا لهم عما كانوا عليه، وهو غير شعيب بن نويل. فجد شعيب
بن مهدم في دعائهم وخوفهم وتوعدهم، وظهرت له معجزات ودلائل أظهرها الله على يديه
تدل على صدقه وتثبت حجته على قومه، فقتلوه. وكان في عصره نبي آخر هو برخيا بن اجنيا بن رزنائيل بن شالتان، من
أسباط يهودا بن اسرائيل بن اسحاق بن ابراهيم، فأوحى الله إليه أن يأمر بعض الملوك في الشام بغزو العرب أصحاب
شعيب بن مهدم، فسار إليهم في جنوده وغشى دارهم بعساكره، فاستعدوا لحربه ولكن
انفضت جنودهم وتفرقت جموعهم وولت كتائبهم وأخذهم السيف فحصدوا أجمعين وبشأنهم -
قيل - قال الله تعالى * (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) * (مروج الذهب 2: 109 - 131 بتصرف - الأنبياء: 12.). |
العرب
من ولد قحطان:
|
قال المسعودي: "
ودثرت العرب العاربة عدا ولد قحطان من يعرب، فدثرت عاد وثمود والعمالقة وجرهم
وطسم وجديس ووبار وعبيل، وسائر من سمينا، ودخل من بقي ممن ذكرنا في العرب
الباقية الى هذا الوقت، وهم ولد قحطان ومعد، ولا نعلم أن قبيلا بقي يشار إليه في
الأرض من العرب الأولى غير معد وقحطان " (مروج
الذهب 2: 24 ط بيروت.). وقال: " الواضح من
أنساب اليمن وما تدين به كهلان
وحمير ابنا قحطان الى هذا الوقت قولا وعملا، وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن
الكبير، والذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الامم، ووجدت عليه
الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان بأرض اليمن والتهائم والأنجاد، وبلاد
حضرموت والشحر والأحقاف، وبلاد عمان وغيرها من الأمصار: أن الصحيح في نسب قحطان: أنه قحطان بن عابر ابن شالخ بن قنان بن ارفخشد بن سام بن نوح. وكان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ وقحطان وملكان. وولد لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب، وولد ليعرب: يشجب، وولد
ليشجب: عبد شمس فتملك وقاتل وسبى فلقب: بالسبأ لسبيه السبايا. وولد لسبأ: حمير
وكهلان، وانما العقب في قحطان من ولد هذين: حمير وكهلان. هذا هو المتفق عليه عند
أهل الخبرة والمتيقن لديهم. وكان قحطان سرياني اللسان وانما تكلم يعرب بالعربية
بخلاف لسان قحطان أبيه " (مروج الذهب 2: 45، 46 ط بيروت.). |
ملوك
اليمن:
|
قال المسعودي " وفد عبيد
بن شرية الجرهمي على معاوية فسأله عن أخبار اليمن
وملوكها وتواريخ سنيها، فذكر: أن اول ملوك اليمن: سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم ملك بعده الحارث بن شداد بن ملظاظ ابن عمرو. ثم ملك
بعده ابرهة بن الرائش وهو ابرهة ذو المنار، ثم ملك بعده افريقس بن ابرهة. ثم ملك
بعده أخوه العبد بن ابرهة، ثم ملك بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهوذ والصرح،
ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد سبع سنين، ثم ملك سليمان بن داود (عليهما
السلام) ثلاثا وعشرين سنة. ثم ملك بعده ارحبعم بن سليمان سنة، ثم رجع الملك الى
حمير فملك من بعد ارحبعم بن سليمان: ناشر النعم بن يعفر بن عمرو ذي الأذعار، ثم
ملك بعده عمرو بن شمر بن افريقس، ثم ملك بعده تبع الأقرن بن عمرو، وهو تبع
الأكبر، ثم ملك بعده ابنه ملكيكرب بن تبع. ثم ملك بعده تبع أبو كرب اسعد بن
ملكيكرب، ثم ملك بعده كلال بن مثوب، ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع، ثم ملك
بعده مرثد، ثم ملك بعده ابرهة بن الصباح، ثم ملك بعده ذو شناتر بن زرعة، ثم ملك
بعده لخنيعة ذو شناتر، في مجموع مدة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين سنة. هذا ما حكي
عن عبيد بن شرية في ترتيب ملوك اليمن (مروج
الذهب: 2: 60 - 62 ط بيروت.).
ونترك
هنا ذكر بقية ملوك اليمن وما وقع على عهدهم، لنأتي على
ذلك بعد ذكر انتشار العرب من اليمن الى الحجاز ويثرب والعراق والشام. ورجحنا ذكر خبر عبيد بن شرية الجرهمي في هذا الباب للاختصار، ولترجيح
المسعودي له بقوله
" ولم يصح عند كثير من الاخباريين - أي المؤرخين - من أخبار من وفد على
معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين العرب وغيرهم من المتقدمين
فيها، الا خبر عبيد بن شرية واخباره اياه عما سلف من الأيام وما كان فيها من
الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب. وكتاب عبيد بن شرية متداول في أيدي الناس مشهور
" (مروج الذهب: 251 ط بيروت.). |
سيل
العرم وتفرق الأزد في البلدان:
|
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه أرسل على أهل بلاد سبأ سيلا
سماه سيل العرم،
وقال المسعودي: " لا خلاف
بين ذوي الرواية والدراية:
أن العرم هو المسناة التي قد احكم عملها لتكون حاجزا بين ضياعهم وبين السيل (مروج
الذهب 2: 163، 164.)، وكان فرسخا في فرسخ، بناه لقمان بن عاد بن عاديا الأكبر (مروج الذهب 2: 161.).
وهذا السد هو الذي كان يرد عنهم السيل فيما سلف من الدهر إذا حان أن يغشى
أموالهم وقد كانت أرض سبأ قبل ذلك يركبها السيل، وكان ملك القوم في ذلك الزمان
يقرب الحكماء ويدنيهم ويؤثرهم ويحسن إليهم، فجمعهم من أقطار الأرض للالتجاء الى
رأيهم والأخذ من محض عقولهم، فشاور في دفع ذلك السيل وحصره، وكان ينحدر من أعالي
الجبال هابطا على رأسه حتى يهلك الزرع ويسوق من حملته البناء. فأجمع القوم رأيهم
على عمل مصاريف له الى البراري تقذف به الى البحر. فحضر الملك المصارف حتى انحدر
الماء وانصرف وتدافع الى تلك الجهة، واتخذ السد في الموضع الذي كان فيه بدء
جريان الماء، من الجبل الى الجبل، من الحجر الصلد والحديد بطول فرسخ، وكان وراء
السد والجبال أنهار عظام وقد اتخذوا من تلك المياة نهرا بمقدار معلوم ينتهي في
جريانه الى المخراق، وكان في هذا المخراق للأخذ من تلك الأنهار ثلاثون نقبا
مستديرة في استدارة الذراع طولا وعرضا مدورة على أحسن هندسة وأكمل تقدير، وكانت
المياه تخرج من تلك الأنقاب في مجاريها حتى تأتي الجنان فترويها سقيا، وتعم شرب
القوم. ثم إن تلك الأمم بادت وضربها الدهر بضرباته وطحنها بكلكله، ومرت
عليها السنون، وعمل الماء في اصول ذلك المخراق وأضعفه ممر السنين عليه وتدافع
الماء حوله. وأتى
أبناء قحطان الى هذه الديار وتغلبوا على من كان فيها من القطان، ولم يعلموا الآفة في السد والمخراق وضعفه، وعند تناهي السد
والبنيان في الضعف عن تحمله غلب الماء على السد والمخراق والبنيان إبان زيادة
الماء، فقذف به في جريه ورمى به في تياره واستولى الماء على تلك الديار والجنان
والعمائر والبنيان، حتى انقرض سكان تلك الأرض وزالوا عن تلك المواطن (مروج
الذهب 2: 162، 163 ط بيروت.)، وذلك عندما انتهت الرئاسة فيهم الى عمرو بن عامر بن ماء السماء
بن حارثة الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث بن كهلان بن
سبأ " (مروج الذهب 2: 161 ط بيروت.). قال المسعودي:
" ورأى عمرو في النوم سيل العرم، فعلم أن ذلك واقع بهم وأن بلادهم ستخرب،
فكتم ذلك واخفاه وأجمع ان يبيع كل شئ له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده فابتاع
الناس منه جميع ماله بأرض مأرب. فلما اجتمعت لعمرو بن عامر أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم فقال: قد رأيت انكم ستمزقون كل ممزق، واني أصف لكم البلدان فاختاروا
أيها شئتم. فنزل جمع من الأزد
بقصر عمان المشيد فقيل لهم:
أزد عمان. ولحق وادعة بن عمرو الأزدي وجمع معه بشعب كرود وهي أرض همدان فانتسبوا إليهم. وسكن جمع منهم ببطن مر فسموا خزاعة لانخزاعهم عمن كان معهم من
الناس وهم بنو عمرو بن لحي. ولحق الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن
عامر بيثرب فسكنوه. ولحق بنو غسان ببصرى وحفير من أرض الشام. ولحق مالك بن فهم
الأزدي وولده بالعراق فسكنوه. وخرج من كان بمأرب من
الأزد يريدون أرضا يقيمون بها، فساروا حتى إذا كانوا بنجران تخلف أبو حارثة بن
عمرو بن عامر ودعبل بن كعب فانتسبوا الى مذحج، وخرج عمرو بن عامر وولده من مأرب
فسار حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك اناس من بني نصر من الأزد. وسار
عمرو بن عامر وبنو مازن حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان
بين واديين يقال لهما زبيد ورمع، فأقاموا على غسان فسموا به، والسراة: جبل يقال
له الحجاز أيضا سكن الأزد في سهله وجبله وما قاربه من ظهره، وانما سمي السراة
ظهر هذا الجبل كما يقال لظهر الدابة السراة، وهو جبل يبدأ من تخوم الشام يفرز
بين الحجاز وبين ما يلي أعمال دمشق والأردن وبلاد فلسطين " (مروج
الذهب 2: 170 - 174 ط بيروت.).
" وتخلف في مأرب مالك بن اليمان بن بهم بن عدي بن عمرو بن مازن بن
الأزد، فأصبح ملك مأرب بعد من خرج منه الى ان كان من امرهم ماكان من الهلاك
" (مروج الذهب 2: 172.). قال المسعودي: وكان
أهل مأرب يعبدون الشمس، فبعث الله إليهم رسلا يدعونهم الى الله ويزجرونهم عما هم
عليه، ويذكرونهم آلاء الله ونعمته عليهم، فجحدوا قولهم وردوا كلامهم وأنكروا ان
يكون لله عليهم نعمة وقالوا لهم: ان كنتم رسلا فادعوا الله ان يسلبنا ما انعم به
علينا ويذهب عنا ما أعطانا فدعت عليهم رسلهم فأرسل الله عليهم سيلا هدم سدهم
وغشى الماء أرضهم فأهلك شجرهم وأباد خضرا عمهم وأزال أنعامهم وأموالهم ! فأتوا
رسلهم فقالوا: ادعوا الله أن يخلف علينا نعمتنا ويخصب بلادنا ويرد علينا ما شرد
من أنعامنا، ونعطيكم موثقا ان لانشرك بالله شيئا. فسألت الرسل ربها فأجابهم الى
ذلك وأعطاهم ما سألوا. فأخصبت بلادهم واتسعت عمائرهم الى أرض فلسطين والشام قرى
ومنازل وأسواقا. فأتتهم رسلهم فقالوا: موعدكم ان تؤمنوا بالله، فأبوا الا طغيانا
وكفرا فمزقهم الله كل ممزق " (مروج
الذهب 2: 174، 175.). ولابد هنا من استدراك: كان هذا مهذب ما كتبه العرب عنهم بعد الاسلام، تأريخا نقليا ظنيا،
بل مزيجا بالأساطير. وظل هكذا
مبهما حتى أواسط القرن الماضي،
حيث جد علماء الآثار والحفريات الأثرية التاريخية الغربيون في قراءة آثارهم
المنقوشة بالخط المسند على الأبراج والهياكل والنصب والأحجار، فاستقر رأي الباحثين من علماء العرب على ما يلي موجزا: إن العرب الجنوبيين في اليمن ليسوا من هجرة بابل بالعراق، بل هم من الموجة السامية الأخيرة التي بدأت في أواخر
(الألف الثاني ق م وأوائل الألف
ق م)، أي في حدود خمسة عشر
قرنا قبل الاسلام، متجهة من شمال الجزيرة نحو جنوبها، لا من خارجها وكانت مملكة سبأ في جنوب اليمن وعاصمتها مأرب، ولهجتهم السبائية هي
احدى اللهجتين الأساسيتين:
المنبثقة في اللغة اليمنية العربية القريبة من العربية الشمالية الحجازية
والتهامية، والحبشية. واللهجة الاخرى:
المعينية لمملكة معين في جوف اليمن، وهي المملكة الثانية من الممالك الخمس هناك. والمملكة الثالثة:
مملكة قتبان في الجنوب الغربي لسبأ، وعاصمتها تمنع. والمملكة الرابعة:
الاوسانية جنوبي قتبان. والمملكة الخامسة:
مملكة حضرموت، وعاصمتها شبوة. وكانت الدولة المعينية في
القرن العاشر قبل الميلاد، واستولت على مملكة قتبان ومملكة حضرموت، ووجدت نقوشهم
في شمالي الحجاز في دادان من منطقة العلا، وفي الحجر أو مدائن صالح (عليه
السلام). وفي (القرن السابع ق م) غلب السبائيون على المعينيين بل على الجنوب كله والشمال، واتخذوا
مأرب حاضرة لهم، ومنهم
بلقيس، نحو (270 ق م). وفي (115 ق م)
نازعهم ملوك ظفار وذي ريدان الحميريون وغلبوا عليهم وعلى الدول الجنوبية فتلقبوا باسم ملوك ذي ريدان واليمان وسبأ وحضرموت، وكانت لهم تجارات الى الهند ومصر وافريقية الشرقية. وفي (24 ق م) اتجه
الرومان الى الملاحة في البحر الأحمر فاستولوا على ميناء عدن وأتخذوها قاعدة
لتموين سفنهم، فشلوا بذلك تجارة الحميريين، فساءت أحوالهم الاقتصادية، وأهملوا
شؤونهم العمرانية، وأخذ الخراب يدب في البلاد. وفي منتصف القرن الرابع الميلادي حاربهم ملوك الحبشة واستولوا على
بلادهم وظلوا بها عشرين عاما.
وأخذت القبائل الحجازية تغير عليها. فأخذ كثير من عشائر اليمن يهاجرون الى الشمال. وهكذا اختلطت بل امتزجت
لغتهم مما أعد لانتصار العربية الشمالية الحجازية على العربية الجنوبية اليمنية
في أواخر العصر الجاهلي. وسبب المنافسة الشديدة بين
فارس وبيزنطة بعثات دينية مسيحية الى اليمن، فاعتنقها أهل نجران في القرن الخامس الميلادي. وناهضها ملوك
حمير وآخرهم ذو نؤاس وحاول القضاء على المسيحيين بنجران (أصحاب الاخدود). فأوعزت بيزنطة الى النجاشي أن يغزو اليمن، فغزاها في (525 م)
واستولى عليهم وضمها الى بلاده. وظل هذا الاحتلال الحبشي لليمن نحو خمسين عاما. وأخيرا استنجد أهلها (سيف بن ذي يزن) بالفرس، فردوا الأحباش وظلوا بها حتى سنة (638 م) إذ اعتنق الاسلام الحاكم الفارسي على اليمن بادان (العصر الجاهلي لشوقي ضيف: 27، 28.) في السنة السابعة للهجرة، فأقره رسول الله على عمله على اليمن، فكان
عليها حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومن أجل أن نصل الى مدى
عظمة الحضارة الحديثة الإسلامية فان علينا ان ندرس الحضارات السائدة يومئذ: |
الحضارة
في الامبراطوريتين الفارسية والرومية:
|
يهمنا للوصول الى مدى بركات الدعوة الإسلامية أن نطلع على حال
الناس: أولا - في
محيط نزول القرآن الكريم، وبيئة ظهور الإسلام وتناميه. ثانيا - في أرقي نقاط العالم يومئذ فكرا وأدبا واخلاقا وحضارة. لا نرى التأريخ يعرفنا
بأرقى نقطة في ذلك العهد سوى
الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، وان من تمام البحث أن ندرس أوضاع هاتين الدولتين من مختلف النواحي
كي يتضح لنا مدى أهمية الحضارة التي أتى بها الإسلام. ونحن إذ نتبين نقاط الضعف في العرب أو الفرس أو الروم قبل الإسلام لا
نريد من ذلك إلا الوصول الى الحقائق في تعاليم الإسلام السامية، ولامانع لدينا
عن تبين الواقع وتشريح الحقائق وبيان العقائد الخرافية والواقع السئ قبل ظهور
الإسلام وحينه، سواء كنا عربا أو فرسا أم من الروم. |
دولة
الفرس حين ظهور الاسلام:
|
المعروف أن بعثة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) كانت في سنة
(611 م) المصادف لعهد خسرو پرويز (590 - 628 م) وعلى عهده هاجر الرسول (صلى الله
عليه وآله) من مكة المكرمة الى المدينة المنورة (622 م) وهو مبدأ التأريخ الهجري القمري والشمسي. وفي هذه الأيام كان يحكم القسم الأعظم من العالم المتحضر يومئذ
الدولتان الكبيرتان والقويتان الروم الشرقية وايران الساسانية، وكانت هاتان منذ
مدة مديدة في حرب مستمرة في سبيل الاستيلاء على الحكم في العالم، امتدت هذه
الحروب من عهد السلطان انو شيروان (531 - 589 م) وحتى عهد خسرو پرويز أي أكثر من
أربعة وعشرين عاما. وقد اثرت الخسائر الفادحة والمصاريف الباهضة التي كانتا
تتحملانها في هذه الحروب في قدرتها حتى لم يبق منها سوى شبح مخيف خاو. ونحن من أجل أن ندرس
أحوال الناس في ظل الفرس من مختلف الجهات علينا أن نطلع على أوضاع الحكومات من
بعد انوشيروان وحتى دخول المسلمين الى ايران. |
الحضارة
الايرانية:
|
إن اكبر نقد يرد على الحكم القائم يومئذ هو أنه كان حكما
ديكتاتوريا استبداديا فرديا، ولاشك أن العقل الفردي ليس كالعقل الجماعي، فالظلم
والمساومة أقل في الحكومة الجماعية من الحكومة الفردية. ولاشك ان شكل الحكم مما
يؤثر في كيفية سلوك الناس. ان الملوك الساسانيين كانوا ذوي ابهة وفخفخة، فالبلاط الساساني
وجماله وبهاؤه كان مما يحار فيه الناظرون، وذلك من كثرة ما جمعوا فيه من الجواهر
والأشياء النفيسة والثمينة ومن الصور والنقوش مايحير العقول. وقد شرح بعض المؤرخين بعض ترف خسرو پرويز، منهم حمزة الإصفهاني في كتابه " سني ملوك الأرض " إذ كتب يقول:
" كان لخسرو پرويز ثلاثة آلاف امرأة، واثنا عشر ألف جارية مطربة وراقصة.
وله ستة آلاف حارس. وله ثمانية آلاف وخمسمائة من الخيل الجياد للطراد، واثنا عشر
ألف من البغال لحمل أثقاله مع ألف بعير. وله تسعمائة وستون فيلا للقتال " (سني ملوك
الارض: 420.). إن نظام المجتمع على عهد الساسانيين كان نظاما طبقيا بل كان من قبل
ذلك قديما وانما اشتد على عهدهم. كتب أحد المحققين من المؤرخين الإيرانيين بشأن الطبقات في عهدهم يقول: " إن من أشد عوامل
التفرقة في الايرانيين هو النظام الطبقي المتشدد الذي كان يطبقه الساسانيون في
ايران، وان كانت جذوره ممتدة منذ القدم إلا ان الساسانيين كانوا قد تشددوا في
تطبيقه جدا: فالملكية الفردية كانت محصورة تقريبا في سبع اسر خاصة بينما كان
عامة الناس محرومين من ذلك تقريبا. ونفوس ايران إذ ذاك مائة وأربعون مليونا
تقريبا، وإذا افترضنا أن الاسر السبع كانت تبلغ سبعمائة ألف، وأضفنا الى ذلك
امراء الثغور وأصحاب الأملاك الصغار الذين كانوا يتمتعون بشئ من حق الملكية
وافترضنا انهم أيضا سبعمائة ألف، كان الذي يتمتع بحق الملكية مليونا ونصف
المليون من مجموع مائة وأربعين مليونا " (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 2: 24 - 26.). وقد نقل مؤلف كتاب " ايران في عهد الساسانيين " عن أحد
المؤرخين الغربيين أنه يقول:
" إن العمال والفلاحين في ايران على عهد الساسانيين كانوا يعيشون بمنتهى
الذلة والمسكنة والتعاسة، وكان من تكليفهم في الحروب أن يمشوا من وراء العسكر
كأنهم قد كتب عليهم أن يكونوا عبيدا أرقاء، من دون أن ينالوا على أعمالهم هذه
الشاقة شيئا " (بالفارسية: ايران در زمان ساسانيان: 424.). وذكر الكاتب الإسلامي شكيب أرسلان يقول: " إن العمال والفلاحين كانوا محرومين من أي شئ من الحقوق
الاجتماعية بل كان عليهم عب ء مصارف الأشراف وثقلهم، فلم يكن لهم أي نفع في حفظ
هذا النظام، ولذلك كان كثير من الفلاحين والطبقات السفلى في المجتمع قد تركوا
أعمالهم فرارا عن أداء الضرائب والمكوس يلتجئون الى الصوامع والدير والكنائس
والبيع " (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 70 - 71.). أجل، إن نسبة قليلة أقل من
الواحد والنصف في المائة من المجتمع الإيراني كان يتمتع بكل شئ، اما أكثر من
ثمان وتسعين بالمائة من الناس في إيران كانوا كالعبيد الأرقاء. |
اختصاص
التعليم بالطبقة الممتازة:
|
إن أطفال الأثرياء واولي النعمة والجاه فقط هم الذين كان لهم الحق
في ان يتعلموا، أما
الطبقات الوسطى وسائر الناس
فقد كانوا ممنوعين عن ذلك ! وقد اعترف بهذا النقص في الحضارة الفارسية القديمة
حتى اولئك الذين كانوا يحاولون الاعتزاز بتلك الحضارة. فقد ذكر الفردوسي الشاعر
الحماسي الفارسي في ديوان شعره الحماسي قصة تشهد على ذلك، وقد وقعت القصة على عهد أنوشيروان أي في العهد الساساني الذهبي،
وتشهد هذه القصة على أن الأكثرية الساحقة من الناس لم يكن لهم حق التعلم. يقول الفردوسي:
كان أنوشيروان بحاجة الى المعونة المالية لقتال الروم، فان أكثر من ثلاثمائة ألف
جندي ايراني كانوا يحاربون الروم وهم في إعواز شديد للأسلحة والطعام. وكانوا قد
أبلغوا انوشيروان بذلك، فاضطرب انوشيروان وخاف على مصيره من ذلك، ودعا إليه وزيره العالم " بزرك مهر " ليشاوره في الأمر، ويقول انوشيروان:
إن على الوزير أن يذهب الى بلاد مازندران ليجمع المال اللازم لذلك من الناس، ويقول بزرك مهر:
إن الخطر قريب وعلينا أن نفكر في الخلاص السريع ولذلك يقترح على الملك أن يقترض
من الناس فيقبل الملك على أن يعجل في الأمر، ويبعث بزرك مهر رسله الى القرى
والمدن القريبة ليبلغوا أغنياءها بالأمر. ويحضر تاجر يعمل في تجارة الأحذية
ويستعد لدفع جميع مصارف الحرب بشرط واحد هو: أن يسمح لولده بالتعلم والوزير لا
يرى مانعا عن اجابة ملتمسه، فيسرع الى خسرو أنوشيروان ويبلغ الملك أمل الرجل، فيغضب أنوشيروان لذلك وينهر وزيره ويقول له: ما هذا الطلب الذي تتقدم به أنت ؟ ! ليس من الصلاح أن نستجيب لهذا
الطلب، فإنه بخروجه عن طبقته ينخر في كيان النظام الطبقي، وهذا ضره أكثر من نفع
ما يدفعه من الذهب والفضة ! فان ابن التاجر إذا تعلم فأصبح عالما ذا فن وهب له علمه آذانا
صاغية وعيونا ناظرة، فإذا جلس ابني على سرير الملك واحتاج الى كاتب استخدمه ولم
يبق للعلماء من أبناء البيوتات والاسر سوى أن يتحسروا ويحسدوا ابن التاجر ! (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران: 618.) ومع هذا
وصفوه بالعادل. وفي فتنة
مزدك قتل ثمانين الفا من
أصحابه (مروج الذهب 1: 264.) ليقتلع جذور الفتنة ! بينما جذور الفتنة كانت تكمن في التمايز
الطبقي وكنز الثروات بيد الأثرياء الأغنياء، وحكر الثراء والمقام بأيدي طبقة
خاصة، الى جانب حرمان الأكثرية الساحقة، وسائر المفاسد الاخرى. في حين يحاول أنوشيروان ان يسكت الناس بالضغط وقوة السلاح ! وبصدد توجيه نسبة صفة
العدالة الى أنوشيروان يقول
إدوارد براون:
" وذلك لشدة بطشه بالزنادقة المزدكيين مما حببه الى مؤبد المجوس، وهم الذين
أثبتوا له هذه الصفة " (بالفارسية:
تاريخ ادبى ايران 1: 246.).
ووصفوه بأنه كان قد علق خارج قصره سلسلة ليحركها المظلومون، فينبهونه بذلك
ويدعونه الى العدل بشأنهم (بالفارسية: تاريخ اجتماعي ايران 11: 618.). ودليل الكذب فيه هو أنهم يقولون بعد ذلك: أنه لم يحركها في طول هذه المدة الا حمار ! وكذلك قالوا
" كان فيمن وفد إليه من رسل الملوك وهداياها والوفود من المماليك في
العراق: رسول لملك الروم قيصر بهدايا والطاف، فنظر الرسول الى إيوانه وحسن
بنيانه، ومع ذلك اعوجاج ميدانه ! فقال: كان ينبغي أن يكون الصحن مربعا ؟ فقيل له: إن
عجوزا لها منزل في جانب الاعوجاج منه، وأن الملك أرادها على بيعه وارغبها فأبت
فلم يكرهها الملك وبقي الاعوجاج من ذلك على ما ترى ! فقال الرومي: هذا
الاعوجاج الآن أحسن من ذلك الاستواء " (مروج
الذهب 1: 264.). عجيب ! الا يحضر من يريد أن يبني هكذا قصر عظيم هندسة وتصميما خاصا
له وهكذا يقدم على البناء بدون أرضية كافية وهندسة خاصة ؟ ! فيخرج القصر معوج
الميدان. - كما نقل المسعودي -، من يصدق هذا ؟ ! أجل لا يبعد أن يكون موابذة
المجوس وأصحاب البلاط قد وضعوا هذه القصص له شكرا له على ما قدمه لهم من خدمات
تذكر فتشكر. وأعجب من ذلك ان حاول بعض الشعوبيين ان يضع حديثا على لسان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يصف انوشيروان (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 11: 618.) بالعدالة: " ولدت في زمن الملك العادل " وخبرا يقول: إن
عليا (عليه السلام) حينما دخل مدائن كسرى نزل في ايوانه وأخرج جمجمة فأحيى
صاحبها وسأله عن حاله فقال: انه انوشيروان وهو لكفره محروم عن الجنة ولكنه لعدله
لا يعذب بالنار ! ومما يشهد على أن أصحاب البلاط كانوا يمدحونه ويثنون عليه
وينشرون عنه الجميل مما ليس فيه ما يذكره الفردوسي في " الشاهنامة ":
أن الوزير بزرك مهر كان وزيرا لانوشيروان مدة ثلاثة عشر عاما، ثم غضب عليه خسرو
پرويز فألقاه في السجن وكتب إليه رسالة قال له فيها: ان علمك هو الذي أدى بك الى
القتل ! فكتب بزرك مهر في جوابه يقول له: كنت أفيد من عقلي ما كان الحظ يساعدني،
والآن إذ ليس لي حظ فسأفيد من حلمي وصبري إن كنت قد حرمت من كثير من أعمال الخير
والبر، فقد استرحت أيضا من كثير من أعمال السوء والشر، إن كنت قد سلبت منصب
الوزارة فقد اعفيت من ألم الظلم فيها أيضا، فما يضرني ذلك ؟ ! فلما بلغت هذه الرسالة ليد خسرو پرويز حضر عليه وأمر ان يجدع أنفه
وتقطع شفتاه ! فلما سمع بزرك مهر ذلك قال: أجل إن شفتي يستحقان أكثر من ذلك !
فقال خسرو: لماذا ؟ قال بزرك مهر: لأني أثنيت عليك بهما عند الخاصة والعامة بما
لم يكن فيك، ونشرت عنك جميلا لم تكن أهلا له، يا أسوأ الملوك ! بعد أن أيقنت
بطهري وبري أردت قتلي بسوء الظنون ؟ ! اذن فمن يأمل عدلك ومن يعتمد قولك ؟ ! فغضب خسرو پرويز من هذا
الكلام وأمر بضرب عنقه (الشاهنامة 6: 260 - 257. وروى القصة المسعودي في مروج الذهب 10: 276.). وكذلك كان أكثر الحكام
الساسانيين ذوي سياسة خشنة بالعصا الغليظة، وحتى العلماء وأصحاب الأعمال لم تكن
لهم قيمة لدى بلاطهم، إذ كان القادة الساسانيون مستبدين بآرائهم بحيث لا يجرؤ
أحد على اظهار نظره لديهم، ولهذا كان عامة الإيرانيين غير راضين عنهم ولكنهم
كانوا خائفين منهم (بالفارسية: ايران در زمان ساسانيان: 318.). وقتل خسرو پرويز ابنه شيرويه ليصل الى الملك كما نقل المسعودي (مروج
الذهب 1: 280.). وملك بعد شيرويه حتى يزدجرد آخر ملوك الساسانيين عدد يتراوح ذكرهم
في التأريخ بين ستة الى أربعة عشر رجلا وامراة وهذا يعني أن الحكومة تغيرت في
مدة أربع سنين أكثر من ست مرات الى أربع عشرة مرة. فما حال دولة يحدث فيها أربعة
عشر انقلابا دمويا في مدة أربع سنين فقط ! فكل من يصل للملك يقتل كل من يدعيه
غيره، ويفعل ما يراه موطدا لأركان ملكه، فالأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه، وكل
من كان يصل الى الملك كان يقتل أقرباءه أي أبناء الملوك الآخرين دفعا للخطر، كان
القادة ينادون بالملك للأطفال والنساء وبعد عدة أسابيع يقتلونهم ويجلسون آخرين
بمكانهم. وهكذا كانت الدولة الساسانية تسير الى هاوية الهلاك. |
حروب
ايران والروم:
|
بعد وقوع عدد من الحروب بين ايران والروم عقد أنوشيروان صلحا مع
الروم اسموه بالصلح الدائم. وبعد مدة ساءت ظنون أنوشيروان بالروم فأعد العدة
وجهز الجيوش للهجوم على الروم واشتعلت نيران الحرب، وفي فترة قليلة نسبيا فتح
الفرس سورية وأحرقوا مدينة انطاكية ونهبوا آسيا الصغرى، واستمرت الحروب حتى
عشرين عاما وحتى فقد كل من المعسكرين امكاناتهم وطاقاتهم فيها، وبعد خسائر كثيرة
عقدوا الصلح بينهم مرة اخرى ورجعوا الى حدودهم السابقة كما كانت شريطة ان يدفع
الروم كل عام عشرين ألف دينار من الذهب الى ايران. وبعد أن تملك في الروم
" تي پاريوس " بدأ هجوما عنيفا على ايران بغية الانتقام منها، واستمرت
هذه الحروب سبع سنين. ومات عنها أنوشيروان وتملك بعده ابنه خسرو پرويز وفي عام
614 م بدأ پرويز هجوما عنيفا على الروم وفتح في الحملة الأولى الشام وفلسطين
وأفريقيا، ونهب اورشليم وأحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح وهدم المدن،
وانتهت هذه الحروب بقتل أكثر من تسعين ألف مسيحي ! وكان هذا بعد بعثة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) فتفاءل
المشركون بغلبة الفرس عبدة النيران على الروم المسيحيين واغتم المسلمون لذلك،
وانتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحي فنزلت الآيات الأوائل من سورة
الروم * (الم غلبت
الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن
بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) * (الروم: 1 - 5.). وقد تحقق نبأ القرآن الكريم بشأن الروميين بعد عشر سنين أي في
سنة 627 م تقريبا فاستعاد هرقل مدينة نينوى (الموصل) ولم يمض شئ حتى قتل خسرو
پرويز على يد ابنه شيرويه، ومات شيرويه بعد ثمانية أشهر، وبعد شيرويه حكم ايران
في مدة أربع سنين اكثر من عشرة قادة أربعة منهم نساء وانتهى الأمر بهجوم العرب
المسلمين وقد ساعدت هذه الحروب التي استمرت أكثر من خمسين عاما على تقدم
الفتوحات الإسلامية مساعدة جادة مؤثرة، وذلك إذ تعلقت مشيئة الله بأن ينتشر نور
الإسلام. |
اضطراب
الوضع الديني:
|
وأهم اضطراب كان يسود ايران على عهد الساسانيين هو الاضطراب
الديني. إن " أردشير بابكان " مؤسس سلسلة الساسانيين كان ابن موبذ من
موابذة المجوس ووصل الى السلطة بمساعدة علماء المجوس، ولذلك قام بنشر دينهم في
أطراف مملكته بكل ما قدر عليه. فأصبح الدين الرسمي والعام لإيران على عهد
الساسانيين هي المجوسية، وبما أن سلطة الساسانيين إنما تحققت بتأييد موابذة
المجوس لذلك كانوا في رعاية تامة من قبل البلاط الساساني، وكانوا أقوى طبقة في
المجتمع الطبقي الإيراني، وكان الحكام الساسانيون في الواقع متعينين بتعيين من
الموابذة المجوس، فإذا تمرد أحد الحكام على العلماء الروحيين كانوا يقابلونه
بشدة، وكذلك كان الملوك الساسانيون يقبلون على طبقة رجال الدين أكثر من أية طبقة
اخرى، ولذلك كان الموابذة في اطراد وكثرة، وكان الساسانيون يفيدون منهم لتأييد سلطانهم،
ويقيمون لهم في أطراف ايران معابد النيران وفي كل منها عدد كثير منهم، حتى كتبوا
أن خسرو پرويز بنى معابد نيران كانت تسع لإثني عشر ألف " هيربد " من
العباد يصلون ويتلون الأناشيد الدينية (بالفارسية:
تاريخ تمدن ساسانى 1: 1.). وهكذا كانت المجوسية دين
البلاط الرسمي، وكان الموابذة المجوس يسعون لتهدئة الطبقات الكادحة والمحرومة من
المجتمع بحيث لا يحسون كثيرا بآلامهم. وهذه الصلاحيات اللامحدودة المخولة للموابذة المجوس وضغطهم الشديد
على عموم الناس أثر في ابعاد الناس عن المجوسية، فكان أكثر الناس يحاولون أن
يجدوا لانفسهم دينا غير دين طبقة الأشراف. ومن ناحية اخرى:
فان دين المجوس كان قد فقد حقيقته تماما، فقد بلغ تقديس النيران الى تحريم ضرب
الحديدة المحماة بالنار بالمطرقة لأنها بمجاورتها النار كانت قد تقدست بقداسة
النار المقدسة ! وهكذا شكلت الخرافات والأساطير أكثر اصول عقائد زرادشت، أما
حقائق دينه فقد تركت المجال لعدد من الشعائر الخاوية الميتة التي كان الموابذة
يضيفون كل يوم إليها خرافات جديدة. ومن ناحية ثالثة:
كانت الثقافة الرومانية والهندية قد وجدت طريقها الى ايران على عهد أنوشيروان،
وسبب اصطكاك العقائد الزرادشتية مع العقائد المسيحية والأديان الاخرى يقظة
الايرانيين وأصبحوا يتألمون مما في الدين الزرادشتي من الخرافات والمطاليب
الواهية، وسبب كل هذا اختلاف العقائد والآراء في ايران وشيوع الأديان والمذاهب
الاخرى، والشك والتردد في آخرين، حتى ترك أكثر الناس ما كانوا يعتقدون به قبل
ذلك، وشمل الإلحاد والاضطراب كل أنحاء ايران (بالفارسية:
تاريخ اجتماعي ايران 2: 20 فما بعد.). |
الحضارة
الرومية:
|
أما الروم فلم تكن بأحسن حالا من ايران، فالحروب الداخلية
والخارجية التي كانت تكابدها دائما ضد ايران على أراضي " أرمنستان "
وغيرها كانت قد أعجزت الناس وجعلتهم مستعدين لاستقبال أي تغيير للأوضاع الراهنة
آنذاك. إن رجال الكنيسة حينما اخذوا زمام الحكم بأيديهم في الروم جعلوا يمارسون
الضغط الشديد بالنسبة الى الوثنيين ولم تكن الفتنة تنطفئ بين الوثنيين
والمسيحيين فكانت الاختلافات الدينية أكثر من كل شئ في الروم، وكان ضغط رجال
الكنيسة قد أدى بكثير من الناس الى الحرمان والفقر، وكانت هذه الاختلافات تنخر
في كيان قدرة الامبراطورية الرومية. وعدا هذا فقد كان البيض في
شمال الروم في إصكاك وصدام مع الصفر في شرق الروم في سبيل الحصول على أكثر
النقاط صلاحا للزراعة والاستثمار، وكانت هذه الصدامات أحيانا تؤدي الى خسائر
فادحة عظيمة من الطرفين، وكان هذا
قد تسبب في انقسام الامبراطورية الرومية الى قسمين: شرقي وغربي. ويرى المؤرخون أن الأوضاع الاجتماعية والمالية
والسياسية الرومية في القرن السادس كانت في اضطراب شديد، ولا يرون في اقتدار
الروم على استعادة سلطتها على بعض النقاط المسلوبة منها دلالة على قدرة الروم،
بل يرون ذلك من فقدان النظام الحاكم في ايران لانضباطه وكيانه القوي. اذن: فالامبراطوريتان اللتان كانتا تدعيان السيادة السياسية على العالم يومئذ كانتا حين طلوع فجر الإسلام تعيشان مرحلة الشيخوخة والهرم، |